الهزيمة الاستراتيجية لإسرائيل

 

حاتم الطائي

◄ الاحتلال فشل في إحراز أي نصر رغم الإبادة الجماعية

◄ هزيمة الكيان تنعكس على 3 مستويات عسكرية وسياسية ودبلوماسية

◄ أمريكا متواطئة وشريكة رئيسية في حرب الإبادة والتدمير بغزة

 

أكثر من 260 يومًا من العدوان السافر والبربري على قطاع غزة، وإسقاط عشرات الآلاف من أطنان المُتفجرات والقذائف والرصاصات، ضد المدنيين العُزل، وحرب إبادة شاملة وتجويع مُتعمّد لنحو مليوني إنسان، لم تمنح كيان الاحتلال الصهيوني أي نصر؛ بل على النقيض كبَّدته خسائر استراتيجية فادحة، وفضحته أمام العالم أجمع، وأكدت أنَّه جيش مُجرم وجبان، يستهدف المدنيين ويرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وسط صمت وخذلان عالمي لا مثيل له.

الهزيمة الاستراتيجية التي نتحدث عنها سبق أن أقر بها وزير الدفاع الأمريكي في الشهور الأولى للحرب، عندما حذَّر إسرائيل من أنها قد تواجه هزيمة استراتيجية، في ظل الجنون الإسرائيلي لتدمير قطاع غزة وغياب أي أفق سياسي أو التزام بالقانون الدولي، وهو ما تحقق فعليًا، ودفع بحكومة الاحتلال نحو هاوية سحيقة، لا قرار لها. ورغم أنَّ دولة الاحتلال تكذب في كل شيء، إلّا أنها ربما كانت صادقة في أمر واحد، وهي أنها تخوض حربًا وجودية، وهكذا هي بالفعل، فهذه الحرب في النهاية ستقضي- بلا ريب- على هذا الكيان الاستعماري المُصطَنَع، فما بعد "طوفان الأقصى" لن يكون كما قبله أبدًا، وحرب التحرير الحقيقية بدأت فعليًا مع أول ضوء فجر في السابع من أكتوبر لعام 2023، عندما نفذت المُقاومة الفلسطينية الباسلة عمليتها المُشرِّفة في مُحيط ما يسمى بـ"غلاف غزة"، ونجحت في اختراق صفوف العدو، وكبدته خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، واستطاعت أن تأسر العشرات وأن تضع يدها على كنز من المعلومات الاستخباراتية، والذي لم يُستغل حتى الآن، فيما يبدو.

والهزيمة الاستراتيجية التي تتجرعها دولة الاحتلال تنقسم إلى عدة مستويات، ينبغي أن تُدرَّس في كليات ومعاهد العلوم العسكرية والسياسية، كنموذج للفشل الذريع، والإخفاق المدوّي، فحكومة النتنياهو لفّت حبل المشنقة حول عنقها، منذ قرارها تنفيذ حرب الإبادة. ويُمكن تفنيد هذه الهزائم كما يلي:

أولًا: الهزيمة العسكرية؛ حيث سقطت قوات الاحتلال الإسرائيلي في مستقنع غزة، وغاصت أقدامها في رمال القطاع، ولم تتمكن من إحراز أي نصر عسكري، باستثناء التدمير التام للبنية التحتية المدنية في القطاع، وقصف المستشفيات والمراكز الصحية، وهدم المنازل والبنايات على رؤوس قاطنيها، وتحويل المدارس ومؤسسات التعليم إلى مدن أشباح، بعد تدميرها بالكامل تقريبًا، وهي كلها جرائم حرب بنص القانون الدولي الإنساني.

فشلت إسرائيل عسكريًا، وفشلت معها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تملك أقوى جيش في العالم، وهذا الفشل منبعه انعدام البُعد الأخلاقي للحرب، فاستحق كلاهما- إسرائيل وأمريكا- تلك الهزيمة القاسية، فلا يمر يوم تقريبًا إلّا وتُعلن المُقاومة عن استهداف مجموعة من الجنود بين قتيل وجريح، وتدمير عدد من الآليات والدبابات جزئيًا أو كليًا. ورغم كل هذا الدمار الهائل، إلّا أن المُقاومة قادرة على القتال ومواجهة العدو بكل شجاعة.

ثانيًا: الهزيمة السياسية، فقد تعرضت إسرائيل لهزيمة سياسية نكراء، بعد فشلها في تحقيق أي نصر ولو بالزور وبالهتان، حتى إن مجلس الحرب الذي شكله نتنياهو أعلن عن حلّه قبل أيام، في خطوة تعكس مدى الإحباط واليأس من إحراز أي نصر تحت أي زعم. فلم تتمكن دولة الاحتلال من استعادة الأسرى أحياء كما روّجت، ولم تنجح في القضاء على المُقاومة ولا حتى إضعافها، فما زالت الصواريخ تنطلق من عدة مواقع في غزة؛ بل من المواقع التي أعلن جيش الاحتلال السيطرة عليها، وسقوط هذه الصواريخ على مدن الاحتلال الرئيسية مثل تل أبيب وعسقلان وغيرها.

وقد امتدت الهزيمة السياسة لتصل إلى المجموعة الحاكمة في إسرائيل، والتي تصدعت وانقسمت فيما بينها، خاصة بعد استقالة الوزير بيني جانتس إلى جانب وزيرين آخرين، من حكومة الحرب، الأمر الذي عجّل بقرار نتنياهو حل مجلس الحرب. كما إن انعكاسات الهزيمة السياسية تجلّت بوضوح في المظاهرات الحاشدة التي تنطلق يوميًا تقريبًا للمطالبة باستقالة الحكومة ووقف الحرب وإبرام صفقة لتبادل الأسرى.

ثالثًا: الهزيمة الدبلوماسية والأخلاقية، والتي تكشفت مع بدء نظر محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل؛ حيث اتهمت المحكمة دولة الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة جماعية، وأنها لا تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع وقوع جرائم حرب، وهو ما انعكس على صورة إسرائيل في المحافل الدولية والدبلوماسية. وما زاد من قتامة هذه الصورة، طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية استصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت.

تلك الهزائم ليست فقط هزيمة لإسرائيل؛ بل أيضًا هزيمة لأمريكا راعية حرب الإبادة الجماعية في فلسطين، والداعم الأول لهذا الكيان الإرهابي المُجرم، سواءً سياسيًا ودبلوماسيًا أو عسكريًا ولوجستيًا. وهذا الدعم الأمريكي غير المسبوق هو الذي شجّع دولة الاحتلال على مُمارسة أقصى أعمال التوحُّش والقتل بلا تمييز، لتكشف أمريكا عن وجهها القبيح ورؤيتها لهذا الصراع، التي لا ترى فيه سوى دعم إسرائيل وحمايتها بشتى السبل!

لكن من المؤسف أن إسرائيل وأمريكا تقودان المنطقة نحو حرب شاملة، حرب ستأكل الأخضر واليابس، وتُهدد بتفجير الأوضاع في أنحاء العالم، وربما تقود نحو حرب عالمية ثالثة، لا يأمل أي عاقل أن تندلع، غير أنَّ الإدارة الأمريكية بقيادة جو بايدن معمية- مع سبق الإصرار- عن رؤية الحقيقة، الأمر الذي قد يقودها إلى الهلاك، وسيضع بايدن على قائمة أسوأ الرؤساء في العالم، وأكثرهم دموية، مثله مثل نتنياهو المُجرم.

ويبقى القول.. إنَّ مأساة غزة وكارثتها الإنسانية ستظل محفورة في الوجدان، وستبقى جُرحًا لا يندمل، ما دامت العصابة الصهيونية قائمة، وما دامت دولة الاحتلال تمضي في غيها الإجرامي، في ظل الموت السريري للمجتمع الدولي الذي لم يعد يُحرك ساكنًا ولا يقوى على قول "لا" صريحة قوية، ويكتفي بالتنديد والإدانة بصوت خافت لا يسمعه أحد!