مدرين المكتومية
قرار الرحيل لا يأتي إلا بعد محاولات كثيرة لتجاوز الأخطاء والصفح عن زلات الآخرين، يأتي بعد مراحل من التريث، فلا قرار بالرحيل دون أن يسبقه تفكير مطول وعميق، ومحاولة تقبل الألم الذي يعيشه الفرد أو المُعاناة التي يسببها له البقاء؛ حفاظاً على العشرة أو محاولة للإمساك بلحظات جميلة مرَّت، فالرحيل لا يأتي هكذا فجائيًا ولا يُمكن لشخص اتخاذه دون أن تكون هناك تجاوزات مكررة وشعور بأنَّ الطرف الآخر غير قادر على استيعاب كمية الألم الذي تخلفه تصرفاته، فعندما نقرر الرحيل هذا يعني أننا حاولنا جاهدين البقاء وتحملنا الكثير فوق طاقاتنا وبإعلان الرحيل نعلن أمام أنفسنا أننا لم نعد قادرين على الاستمرار وأن كل محاولات البقاء باءت بالفشل وأصبح الحل الوحيد هو الرحيل حفاظاً على النفس وكرامتها.
الرحيل ليس سهلاً لأنَّ معناه أن تترك خلفك لحظات جميلة وذكريات أجمل، معناه أن تبيع سنوات عمرك التي عشتها في وهم لأجل العيش في الحقيقة رغم مرارتها لكنها تبقى الحقيقة، حياة كانت مجرد افتراض لكن مع الوقت تصل الرسائل تباعاً إليك لتخبرك أنَّ الوقت قد حان لتطوي صفحات ظننتها رائعة وجميلة لكنها في الحقيقة كانت محملة بالكثير من الزلات والتنازلات والتغاضي، مليئة بعصارة القلب ومحملة بالكثير من الدموع، فالرحيل في هذا الوقت يصبح جزءا من رد الجميل لأنفسنا على صبرها الطويل، وامتنان لكل تلك السنوات التي قدمنا فيها قلوبنا هدايا وعطايا وهبات لمن لم يقدرونها، يصبح رد الجميل لعقولنا التي أوهمتنا أنَّ القادم سيكون أفضل وأن هناك لحظات ستغير مجرى الحياة وأننا سنحصل على كل ما نُريد بعد الجلد والحزن، ولكننا عندما نعلم أننا كنَّا مخطئين لدرجة السذاجة وأن الأمر الأهم بالنسبة لنا هو الأقل أهمية بالنسبة للآخر حينها نصدم من ردود الأفعال فيبقى الرحيل قرار الصواب. صحيح أنَّ الشفاء من الماضي والنهوض من جديد يحتاج إلى وقت وجهد، يحتاج لصدر حنون يحتضن همومنا ويد معطاءة تمتد لنا لتأخذ بأيدينا نحو الأمان، لكننا بعد أن نتذوق مرارة التجارب نظل نفكر طويلاً في أي قرار قبل أن نتخذه، نصبح أكثر تريثاً ونخشى من تخطئ نظرتنا مرة أخرى فنخسر أناساً كانوا سيعوضون لنا تلك السنوات، لكن من يتألم كثيرًا يقاوم بقدر ألمه الاندفاع والرغبة، يقاوم ما يمليه عليه قلبه ويقاوم فكره خوفاً من الوقوع في الخيار الخطأ.
الرحيل هو الأمر الذي يأتي بعد محاولات من البقاء، محاولات التجاوز وتغيير الواقع لكن حين نصل لتلك النقطة والزاوية المُغلقة نتوقف عن كل شيء، نتوقف عن الحسابات والأرقام نتحدث بموجب الألم والحزن، نتحدث بموجب السنوات التي كانت ولابد أن تكون هي السعادة المطلقة، الخسارة لا تحتاج للكثير من الوقت فقد تأتي على شكل كلمة أو ردة فعل وربما على شكل خذلان وفي كل الأحوال هو الأمر الذي يصنع من الرحيل قرارًا ممكنًا، وقد يكون الحل الأفضل بالنسبة لمن تعايش مع كل تلك الآلام.
نحن نرحل عمّن نُحب حين نجد أنهم مكتفين بنا بطريقة لا يمكن أن تتجدد فيها علاقتنا، بطريقة تجعلهم يتعاملون معنا كأثاث منزل أو ربما كشخص لا يربطهم به إلا المعرفة، فتبدأ تتشكل لدينا مشاعر متناقضة نخسر فيها القدرة على الجزم إن كانت هناك مشاعر يحملها لنا الطرف الآخر أو أنها فقط مجاملة لعشرة تربطنا.
مع الوقت نجد كل شيء يختلف عن البدايات التي تتحول لذكريات ضبابية نشتاق إليها، ونعيش الواقع وتفاصيله تلك التي لم نصدق حدوثها، وكأننا موهمون بهم بصورة غير متوقعة، نحتاج منهم الكثير ولكنهم بعد إن استطاعوا غرس أنفسهم في قلوبنا بدأت معاملتهم غير المتوقعة والتي تجعل الشخص يشعر وكأنهم يريدون قطع كل الروابط دون أن ينطقوا بذلك، فتبدأ أفكار الهرب تتسلل إلى دواخلنا حتى يصبح الأمر واقعا حقيقيا ويصبح علينا الرحيل دون تفكير بالعواقب، وعند الرحيل تكمن الصدمة وهو أن من كنَّا نعتقد أننا لا يُمكن أن نعيش دونهم يستطيعون أن يصنعوا لأنفسهم حياة أخرى وكأننا كنَّا حجر عثرة لطالما أرادوا التخلص منه ولكن بطريقتهم الخاصة وهو الضغط على قلوبنا لتتخذ الموقف البطولي ونرحل عنهم.
إعلان الرحيل هو تتويج لقرار بالتعافي من مرض عضال كنَّا نعتقد أنه سيلازمنا حتى الموت وأنه قدر لا اختيار، وبمجرد معرفة أننا لسنا ملعونين بالبقاء يعتقنا إعلان الرحيل لننطلق لحياة أخرى تحمل الأمل بالجديد.