علي بن مسعود المعشني
قد يتساءل البعض منّا عن أسباب تعثر الخطط الاستراتيجية في سلطنتنا الحبيبة وغيرها من أقطار الخليج؟ والجواب هو أننا شعوبًا وأقطارًا فتية وناشئة ولا يتوفر لنا الوعي العميق بثقافة الدولة ومتطلباتها ولا المؤسسات العميقة التي تستطيع التعاقب بجدية على مفاصل تلك الخطط ومراحلها فتذهب الخطط أدراج الرياح مع رحيل المسؤولين وتعاقبهم وكأنّها شأن شخصي وليست حاجات دولة وتطلعات شعب. فنحن مازلنا في طور الوزارة الحقيبة التي يحملها المسؤول معه أيّنما رحل وتعتبر إلى حد كبير أملاك خاصة وعلى مزاجية وفكر المسؤول لا أكثر، هذا الكلام توصيف لمعضلة قائمة وتشخيص لها وليست إساءة أو اتّهام لأحد. ولا زلنا نعيش ونعاني من أعراض اختطاف الدولة بجميع مكوناتها وأطيافها واختزالها في الحكومة.
علينا أن نعترف بأن أغلب ما تمّ إنجازه على أرض السلطنة ومنذ بزوغ فجر النهضة الماركة - إن لم نقل جميعه – من مدارس ومشافٍ وخدمات وطرق وجامعات ومنشآت ومؤسسات تحقق بفعل حاجات الدولة والمجتمع وضرورات العصر لا بفعل التخطيط أو الاستراتيجيات فللزمن أحكام ومفاعيل تجبر الساكنين به على مواكبته واللحاق بالركب ومسايرة المستجدات.
فالمتابع للخطط الخمسية والتي انطلقت بواكيرها منذ عام 1976م لم تحقق أفضلها نسبة نجاح أكثر من %60 بفعل عوارض وتذبذب أسعار النفط أو تزاحم أولويات التنمية، وهذه النتائج كان حري بنا أن نتوقف عندها ونستلهم منها التقييم والتقويم بدلًا من القفز نحو "المستحيل" بعناوين براقة لا حيلة لنا ولا عهد لنا بها تسمى الاستراتيجيات. بل ولا نخجل من التذكير بأن موازناتنا السنوية لم تسلم من العثرات والإرباك في تقدير الموارد والإنفاق السنوي وتحقيق التماهي بينهما دون عجوزات أو قروض فما بالنا بما أبعد من ذلك وأطول.
فلو كانت لدينا خطط استراتيجية حقيقية تستلهم العلمية وتتبع المنهجية لقلصنا كثيرًا من فجوات العجز والدين العام وطوابير الباحثين عن العمل ولأنجزنا قانون تقاعد حيوي وجاذب يزيح عن كاهل الدولة إنفاق رواتب وتوظيف متعاظمين ويستنزف مقدرات حصص تنموية هائلة ويهدد بتعطيل التنمية وتقليص فرصها إلى حد كبير في ظل حضور الاقتصاد الريعي وغياب البدائل الجادة للنفط.
فالاستراتيجيات تحتاج إلى مؤسسات عميقة وإلى واقعية وإلى وعي مجتمعي عميق وقبل كل ذلك يجب أن تلبي حاجات السواد الأعظم من الناس وتتناغم مع تطلعاتهم ليقوم كل طرف بدوره على الوجه الأكمل، فلا يمكن الحديث عن استراتيجية السياحة في ظل عدم وجود هوية أو فلسفة للسياحة وفي ظل غياب القيمة المضافة لها، كما لا يمكن الحديث عن الأمن الغذائي ما لم يتم إشراك شرائح مهمة من المجتمع في الانتفاع منه بدلًا من التفكير في استحداث أنشطة وشركات ستتسبب بالنتيجة في تحجيم وإعاقة وتحطيم القائم من مؤسسات صغيرة ومتوسطة في ذات القطاع لغياب المنافسة وتكافؤ الفرص والندية. كما لا يمكن ضمان نجاح استراتيجية بيئية في ظل غياب فلسفة البيئة وتزاحم الأولويات لدى المواطن، ولنا أن نقيس على هذا الكثير من خطانا وخطواتنا التنموية.
غياب التخطيط
ومن جهة ثانية، كلنا يتحدث عن الفساد بمعناه ومدلوله التقليدي ويبحث عنه في ردهات الدولة ليتحجج به وأغلبنا يجهل الفساد المستحدث والمصاحب لمنظومة الدولة والمحمي بالقانون.
فمنظمة الشفافية الدولية تقدر حجم الفساد السنوي في دولة عربية كبرى بـ70 مليار دولار، وهذا المبلغ- وما على شاكلته- لا يذهب الى جيوب أناس فاسدين بالضرورة وفي وضح النهار وفق تعريفنا وفهمنا للفساد بوجهه التقليدي، بل تذهب نسبته الكبرى تحت مظلة القانون ومرأى ومسمع الجميع ومنها أوجه الإنفاق غير الضرورية أو غير المدروسة، كالمشاريع الفاشلة والبذخ والمظاهر الاحتفالية والمصاريف المتكررة للجهاز الإداري للدولة وجيوش الخبراء والمستشارين غير المنتجين وجيوش الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية في ظل دبلوماسية بلا هوية أو أنياب أو مخالب ولا يخلو قُطر عربي من نسب فساد وبعناوين مختلفة.
الإنفاق غير الضروري وهدر المال العام في بعض الأحيان أصبح حديث المجالس ومن مشاغل الرأي العام في سلطنتنا الحبيبة، ويجب علينا ألا نخجل من وصف إنفاق ربع دخل الدولة 6 مليارات ريال عماني سنويًا على شكل رواتب وعلاوات سنوية على أنّه وجه من وجوه غياب التخطيط والانغماس المعيب في ثقافتي الاستهلاك المفرط والاقتصاد الريعي، كما أنّ الإنفاق الهائل على التدريب والتعليم والتأهيل دون حاجات فعلية ولا دراسات عميقة لحاجات التدريب للوحدات يجب علينا تصنيفه ضمن خانة الفساد العصري المقنن.
وبلا تردد أو خجل يضاف على ذلك ما يقدم من أشكال دعم مختلفة للقطاع الخاص من الحكومة، والذي يجب أن يتوقف، فليس من المعقول أو المقبول أن يستمر الدعم الحكومي السخي للبنوك والمصانع والوكالات والجامعات الخاصة والمشاريع الاستثمارية بجميع أنواعها إلى أبد الدهر، بدلا من حقنها في شرايين التنمية أو صناديق الادخار، كما لا يعقل أن يبقى دخلنا من مليوني وافد لا يتجاوز رسوم بطاقة عمل سنوية يتحملها المواطن، فيما تُرحل المليارات من المدخرات سنويًا إلى خارج السلطنة ونحن نستنكر فقط.
مهرجان الخريف
يزورنا الخريف في كل عام ويتناسل مهرجانه بذات الوجوه والمظاهر والمنشآت والفعاليات الأمر الذي يؤكد بأنّ العقول قد توقفت عن إنتاج الجديد أو التفكير به أو استيعابه؛ حيث لا فرق استطلاعات رأي تجوب المناطق لسبر آراء الناس والوقوف على حاجاتهم لتحقيقها وتنشيط السياحة وتطوير المهرجان، ولا آذن صاغية للعناية بنظافة المرافق وتنظيم المخيمات أو تصميم مخيمات أنيقة وتأجيرها على المواطن والزائر للحفاظ على الذوق العام وتعدد الخيارات للناس في هذا الموسم السنوي، ولا وجود لمرافق ضرورية وحيوية مؤقتة أو دائمة في أماكن جذب الناس كالعيون المائية ومساقط المياه، ولا تفكير بخروج فعاليات المهرجان إلى الشوارع والولايات ليصبح تظاهرة حقيقية للمحافظة ولتوظيف هذه الهبة الربانية بما يواكب منطق العصر ويسوق محافظة ظفار كوجهة سياحية إقليمية على الأقل ولو لموسم كذلك، ولا تفكير في تقديري باستضافة فعاليات عالمية مواكبة للموسم وجاذبة للسواح من معارض كتب عالمية وفنون ومهرجانات تسوق عملاقة ومؤتمرات وندوات متخصصة ومناشط رياضية عالمية وعروض تجارية مغرية وتسهيلات دخول وتنشيط مطار صلالة وفتحه موسميًا لرحلات دولية ما يجعل من محافظة ظفار ورشة حقيقية طيلة موسم الخريف وقبلة سياحية جاذبة لفئات وشرائح مختلفة من السواح من مختلف الثقافات والاهتمامات، ولا وجود لفلسفة النشاط الفني بشقيه المسرحي والطربي حيث لازال الوضع وكما بدأ متعهد ونجوم شباك بلا ضوابط ومسرحيات هي أقرب إلى التهريج منا إلى رسالة المسرح والفنون وأجساد نكرة تتمايل بهوس وقلة حياء، لازلنا نحلم ونترقب أن يتطور المهرجان ويتحول من لهو وترفيه سنوي وفي جغرافية بعينها إلى رسالة ثقافية وتعليمية ونشاط موسمي فعال ومدروس بعناية أكبر وبشمولية أوسع تتكاتف فيه جميع الجهود وتتعاظم فيه ومنه المنافع للمحافظة برمتها.
قبل اللقاء: "الأفكار حين تتناسل تركن إلى الفولكلور وعبادة الموروث وإضفاء القداسة عليه فيصبح التغيير والتطوير ضربُا من ضروب العيب".
وبالشكر تدوم النعم