إجراءات تثقل كاهل المواطن

 

د. عبدالله باحجاج

لا يبدو أنَّ هناك تنسيقًا أو رؤية مُتناغمة بين مجموعة سياسات وإجراءات تتخذها الوحدات الحكومية والمؤسسات العمومية والخاصة تمس المجتمع في مختلف تفاصيل حياته اليومية، وتمس جوهر معيشته الضرورية، بما فيها تلك التي يتوقف عليها الاستقرار المالي للأسر، ولو كان هناك تنسيق، لما شهدنا سياسات وإجراءات إلزامية، فوق واقعنا الاجتماعي، كإمكانية وثقافية، ومن ثم ماذا ينبغي أن نتوقع من انعكاسات سلبية على المجتمع؟ وما هي آفاقها؟

يتأكد لدينا اليقين، ونحن نتابع عن كثب واقعنا الاجتماعي ومآلاته الجديدة، إن هناك فعلا غيابا واضحا في رؤية الانعكاسات الاجتماعية المحتملة لمجموعة سياسات وإجراءات ثقيلة على المجتمع، وهذا ما يدفع بنا إلى فتح هذا الملف بعد أن رأينا طابع التشديد على المواطنين، نهجا مؤسساتيا يتجه إلى التعميم، لا يتناغم مع طبيعة المرحلة الراهنة التي يعيشها المجتمع في ظل تحولات الدولة الاقتصادية الكبرى، بحيث يفتقر الوعي السياسي لانعكاساته المختلفة، لأنه لصفاته الإلزامية والقهرية دون الاعتداد بالخلفيات، ولا بالتوقيتات الزمنية، وهل هي ملائمة أم لا؟ سنأخذ اليوم قضية التشديد في تحصيل فواتير الماء والكهرباء من الأسر من منظورين متوازيين هما، إلزامها بالدفع الكلي أو تعرضها للقطع الفوري، لا خيار ثالث، مع فتح رؤية شاملة لقضية التشديد العامة التي تتم دون تنسيق مؤسساتي، وبدون وعي بمآلاتها على المجتمع، ومدى تلاقيها مع قضايا أخرى مثيرة اجتماعياً، ومعها نتساءل مسبقاً، إلى أية مسارات يدفع بالمجتمع الآمن في سربه، والمستقر في أوضاعه؟ وهل هناك من يهتم بمثل هذه القضايا، ويدرس انعكاساتها الاجتماعية؟ من لم يعلم، فعليه العلم أنه يتم هذه الأيام قطع التيار الكهربائي والمياه عن المئات من الأسر العمانية في اليوم الواحد، ووفقا لمصدر غير رسمي أن القطع وصل في أحد الأيام إلى قطع (240) عدادا للكهرباء و(300) للماء، وقد زرنا الميدان خلال الساعات القليلة الماضية، ووجدنا شركة تحصيل الفواتير وفروعها في صلالة مثلا، تعج بالمراجعين المسائيين، وكلهم عمانيون، وأغلبهم قد قطعت عليهم الكهرباء أو الماء أو هما معاً، والبقية تحاول تقسيط سداد المستحقات الشهرية دون جدوى، كل العاملين في الشركة وفروعها وكأنهم مبرمجين "آليا" على القطع في الشهر (3000) عداد – وفق ما أفاد به مصدر ميداني، ويرجع ذلك إلى تعليمات خارج نطاق الشركة، لكن هل هذه الظاهرة عامة أم خاصة بمُحافظة ظفار؟

التشدد في القطع يُقابله التشديد في تحصيل الفواتير، فمن 60% يسمح به الدفع من قيمة كل فاتورة ماء أو كهرباء، ارتفعت النسبة إلى 75% الآن، وهذه نسبة تعجيزية لا تنم عن مراعاة ظروف الأسر، ولا تقاطعاتها مع سياسات أخرى متشددة، ولا مع الظروف المالية الصعبة لها الناجمة عن سياسات حكومية معلومة بالضرورة، وهناك الآن أسر دون ماء أو كهرباء أو هما معا، أما إذا ما تم قطع الحق في الكهرباء، فيلزم كل مواطن أن يدفع أولاً غرامة قيمتها (15) ريالاً ومن ثم عليه أن يدفع كامل المستحقات المالية، وإلا، فلن ترجع له خدمة الكهرباء، وقد عشنا في الميدان حالات كثيرة تشتكي من هذا الأسلوب، فأحدهم قال حرفيًا: "إذا أعطيتكم كامل فاتورة الكهرباء.. فلن أتمكن من أن أدفع فاتورة الماء ولا أكل أولادي"، إذن لماذا هذا التشديد في سداد فواتير الماء والكهرباء؟ هل من أجل حل مشكلة التراكمات؟ وهل هذا هو الحل الأمثل الذي يحفظ حقوق الكل؟ ومن ثم من المسؤول عن قضية التراكمات؟ وهذه قضية في حد ذاتها، لكن، كيف ترك المتخلفون عن سداد الفواتير طوال الحقبة الماضية؟ هنا يتضح لنا أن قضية التراكمات مسألة مشتركة، ومن ثم، فليس من العدالة تحميل المجتمع تبعاتها، ولا التشديد فيها، وهذا التشديد يشمل كذلك حتى الملتزمين بالدفع، فنسبة 75% عالية جدًا ولا يجب الإصرار على دفعها كاملة، فهي فوق إمكانيات المواطنين، وتكون النتيجة غالبًا، قطع الحق في الماء والكهرباء أو إحداهما. وتحدث الآن عملية اختلالات سافرة في الوفاء بالتزامات الأسر الشهرية والسنوية المعتادة سواء من حيث ما سبق ذكره أو من حيث التزاماتهم البنكية أو الخاصة أو المعيشية، كل هذه الالتزامات قد تأثرت سلباً بسياسات تشديد الخناق، وهي تتلاقى كذلك مع فصل الخريف السياحي الذي ترتجي منه الأسر بعض العوائد المالية لمُساعدتها في الوفاء ببعض التزاماتها سواء في المناسبات الاجتماعية كالزواج مثلا. ففي الأسبوع الماضي بلغت حالات الزواج 144 حالة، فهل ندق ناقوس الخطر على عادات وأعراف الزواج بل وعلى إقبال شبابنا على الزواج إذا ما استمر مثل هذا التشديد؟ كما يتزامن نهج التشديد مع مرحلة العودة المدرسية، فبقطع الماء والكهرباء عن المنازل لن تتمكن الكثير من الأسر من إيجار منازلها، وبالتالي ستحرم من العوائد السنوية التي تحصلها من مغادرة منازلها كل خريف، وإيجارها، لأن الماء أو الكهرباء أو كلاهما مقطوعان عنها، وبذلك سيتم تشديد الخناق عليها، فمن يحس بهذه الأبعاد والخلفيات الاجتماعية؟ ولنا أن نتصور الدافع الذي يجبر الأسر على السكن في السهول أو متفرقين عند أقاربهم من أجل إيجار منازلهم طوال فترة الخريف؟

ويتقاطع مع هذا التشديد المزدوج، التشديد في إجراءات كثيرة، نذكر على سبيل المثال التشديد في تحصيل رسوم تجديد المركبات والعربات، المتراكمة، في وقت واحد، وإلا، فيتم توقيف العربات "إلزاما" وهذه السياسة قد بدأت متزامنة مع مرحلة مكونو وإصلاح أضراره الاجتماعية، وتزامنت مع شهر رمضان المبارك، واستحقاقات العيد، مما وضع المجتمع خاصة فئاته الضعيفة والمتوسطة تحت ضغوطات مالية عالية المستوى في ظل الإصرار على عدم تقديم المرتبات، مما أثر سلبا على تحضير الأسر أبنائها للعيد ومظاهر العيد السعيد، وتأثرت كذلك سلبًا الحركة الشرائية، فكيف ستكون أوضاعها مع التشديد في تحصيل فواتير الكهرباء والماء؟

هنا نجد التساؤل قائمًا، حول مسؤولية قضية التراكمات، وإذا كان هناك تراخٍ سنوي في تحصيل رسوم التجديد والكهرباء والماء، فهل من الحكمة تبني نهج الإلزام الكلي وبالأثر الفوري في ظل ظروف الأسر المالية الصعبة؟ ويبدو أن شركة تحصيل فواتير الماء والكهرباء قد اقتدت بنهج تجديد ملكيات العربات، وعممته على كل مستهلكي الماء والكهرباء، وهي ليس عندها مشكلة مع المستهلك التجاري، فقاعدة الالتزام بالدفع لم تشهد انقطاعا بحكم توفر السيولة ولدواعي ديمومة الإنتاج، والمشكلة مع الصنف الثاني وهم "المواطنين" الذين يطبق عليهم الإلزام دون استثناء، وتطبق عليهم عقوبتان في آن واحد، عقوبة القطع وعقوبة غرامة القطع وقيمتها (15) ريالا حتى لو تم دفع كامل المبلغ، في عهد الشركة الأمريكية السابقة، كانت تعطي المواطن فترة محددة حتى يسارع بالدفع لعودة الكهرباء، والآن دون فترة، فبمجرد القطع يستلزم دفع الغرامة قبل المستحقات، وماذا يترتب الآن على كل ذلك؟ لجوء الكثير من المواطنين إلى البنوك، مما يوسع قاعدة المدينين في البلاد، فكم سيبلغون من مجموع تعداد سكاننا الصغير جدًا؟

نقترح على المجالس المنتخبة "الشورى والبلدي" التدخل فورا لهذه القضايا العاجلة، فالماء والكهرباء من أساسيات الحياة، ومن حقوق المجتمع على الدولة، فتوفيرها ينبغي أن يكون في متناول المقدرة المجتمعية، لأننا لا نتصور العيش دون ماء وكهرباء.. فليس من السهولة حرمان الأسر منها بالكيفية الراهنة ومهما كانت السياقات الزمنية، فكيف لو تقاطعت مع مواسم الخريف والأعراس والتدفقات السياحية.. ففيها نقول إنها توقيتات غير موفقة، ويجب إعادة النظر فيها فورا، ونرى أنه ينبغي أن يعطى المتخلفون فترة زمنية للدفع، مع السماح لهم بدفع الفواتير الشهرية أولا بأول حتى نهاية كامل التراكمات، مع عودة النسبة السابقة للدفع سواء للمتخلفين أو المتواصلين، مع فتح ملف المتخلفين الذين ينتمون للفئات الاجتماعية محدودة الدخل لإعفاء التراكمات .. فقد نجد وراءها حالات تعجز عن الدفع بسبب تداعيات التحولات الاقتصادية الكبرى التي تتبناها بلادنا منذ منتصف عام 2014، ما عدا ذلك، فإن تشديد الخناق على المجتمع لن يخدم نجاح التحولات نفسها، ويمس استقرارنا الاجتماعي على المدى المنظور خاصة إذا ما تقاطعت مع تصعيد منظومة الرسوم والضرائب في عام 2019، إلى أين نحن سائرون بالمجتمع؟