العصف الفكري ودوره في تقدم الأمم

 

حمد بن سالم العلوي

إنّ استمرار الدوران في دوائر مغلقة، وصف ينطبق على واقع الحال الذي تعيشه البلاد العربية، ونحن في عُمان كذلك، فقد أخذت عقارب ساعة التنمية تدور، وترجع إلى حيث كانت، فهذا التطور الذي يحدث اليوم لا ينكره إلا جاحد، ولكن طموحنا أكبر من ذلك، فلا يجب أن نكتفي بالتطور الاعتيادي، ونحن بلد ينمو في كافة النواحي، وبشكل متسارع، فعلى سبيل المثال، ليس هناك نمو في الجوانب التجارية، وهي عصب الحياة للأوطان والأمم، عدا توسع وتضخم في الشركات العائلية التي رافقت النهضة، ولا ينبغي أن نحسدها على تطورها ونموها، ولكن أين الشركات الجديدة؟ وما سبب تعثرها عن النهوض والرقي؟ فالصحيح إن الشركات والمؤسسات الجديدة لا توجد ذاتها من فراغ، فقد نشأت بعض الشركات لتقدم خدماتها في النفط والغاز، ونجحت وقد يعلم البعض سر نجاحها وتمددها، فقد تكون نجحت نتيجة تسليك دروبها بدهن السير كما يقال، أو نتيجة اكتساب الخبرة في العمل نفسه، ثم الاستقلال بالعمل الخاص، ومع ذلك لا بد من التعهد المسبق لها بالدعم من جهة ما.

إذن كل نداء سبق وأن تقدمنا به ككتاب مقالات، بأن تنشأ مظلة ولو مؤقتة لحماية الشركات الصغيرة والمتوسطة، كان أمراً ضرورياً، ولكن لم يستجب له، هذا في مجال التجارة أو الصناعة، وهناك مجالات أخرى كالزراعة وصيد البحر، فقد ترك للوافدين استغلالها بالحرية المطلقة، بعدما تولدت لدينا قناعات مطلقة أن العُماني يتأفف عن هذه المهن، وهذا في قرارة نفوس البعض، ومنهم مسؤولون في الدولة، ولكن يصرحون بعكس قناعاتهم، وذلك لتبرئة أنفسهم من التقصير، فإذا الزراعة لا تأتي قيمة همها، فكيف نريد من المواطن أن يلهي نفسه في لا شيء، إذن لا بد من الدعم الحكومي حتى يستوي الزرع على سوقه، حتى إنّ تسويق المنتجات الزراعية الذي كان يعد نوعاً من الدعم فقد ألغي.

ثم أين التصنيع الجاد والابتكارات العلمية؟ وذلك باستثمار العقول التي صقلها التعليم العالي؟ ألا تعلمون أن هناك من يظل يترصد نوابغ الشباب؟ فيتربصون بهم الدوائر، ليشتروهم كثمار يانعة حان قطافها، فعندئذ يظل بعضنا يولول بالقول، أين ذهبت الوطنية؟ وأين ذهب الشعور بالواجب؟ فنقول لكم، إن قطار الزمن يمر مسرعاً، فإن لم تستغل الفرصة السانحة فإنه سوف يطوفكم القطار، ويترككم واقفين في مكانكم، والناس لن تضيع عمرها بداية في الدراسة، ثم بعد ذلك في الانتظار إلى ما لا نهاية، حتى تأتيه ضربة حظ عابرة، وليس حق موعود ثابت.

إذن علينا أن نأخذ بالأسباب، والدعم المادي المدروس، يعد ضرورة ملحة، لأنّ النجاح لا يأتي عشوائياً، وتبنيِّ الأفكار ضرورة حتمية، لذلك علينا أن نخصص قسماً، إن كان كبر علينا إنشاء دائرة خاصة، تلحق بالمجلس الأعلى للتخطيط، أو بجامعة السلطان قابوس، طالما ظللنا نزيح فكرة مراكز الدراسات والبحوث من أذهاننا، وذلك لرصد عصف وتمحيص الأفكار التي يطرحها الناس، سواء كان ذلك من خلال كتاب المقالات، أو كتاب البحوث والدراسات، أو حتى الأفكار الفردية التي يطرحها الناس شفاهة في مجالسهم، أو من الإحصائيات، أو استطلاعات الرأي، فلا يكفي أن نشغل الرأي العام بفرقعة إعلامية، بأنّ الحكومة جادة في تبنيِّ الابتكارات والبحوث العلمية، فما نريده التطبيق السريع على أرض الواقع.

إنّ الطوابير الطويلة من الخريجين ينتظرون العمل، وعندما نقول العمل لا نقصد التوظيف في الحكومة، حتى نخلق بطالة مقننة في المكاتب، أو إكراه الشركات على التوظيف العشوائي، وذلك من أجل كسب أرقام لإلهاء الرأي العام بها، بل علينا أن نتبنىَّ الأفكار المتطورة، فيحتاج أن تتلقاها عقول متفتحة واعية، وأكثر تطوراً استفادة من واقع التجربة والخبرة، ومفعمة بالمشاعر الوطنية، حتى تستطيع أن تتقبل الأفكار الواردة إليها من الناس، وأن ننظر إلى فرص الاستثمار الهائلة التي يمكن تبنيها، فإذا أنشأنا مناطق حرة، فيجب أن يكون هناك نصيب للمواطن فيها، أمّا إذا فتحنا مناطق حرة، وسلمناها بالكامل للوافدين، فلن نحدث شيئاً جديداً، وعندنا مناطق رائعة لصناعة السياحة، فالشواطئ الممتدة على بحر العرب، والجزر العُمانية التي فيه، وخاصة جزيرة مصيرة، فهي مناطق جذب كبيرة للسياحة والاستثمار، وطبعاً صلالة، والجبل الأخضر، ومسندم والجزر في بحر عُمان، كلها مناطق رائعة في أغلب أيام السنة ومعروفة للناس.

إنّ اتباع سياسة نسمع كما نشاء، وننفذ ما نشاء، لن تقدم تطوراً بمشاعر وأحاسيس وطنية، وأنّ الميزان الأرجح ليس دائما بيد السلطة صاحبة القرار، فلو أنّ المسؤول لم يعط الأذن الصماء للناس، لما ظهرت سلبيات خطيرة عندما بدأت أزمة النفط الثانية، فصار أسهل للمسؤول أن يدفع بالحلول إلى جيب المواطن، ونسي أو تناسى هذا المسؤول أو المسؤولين، أنّ هذا المواطن كان ينتظر حلولا لمشاكله من الحكومة، لا أن تطينها عليه بقرارات صعبة ومجحفة، فهؤلاء المسؤولون لو عملوا بالتوجيهات التي كانت تحذرهم من الغفلة، التي أسدها إليهم قائد البلاد المفدى جلالة السلطان المعظم - حفظه الله وأمد في عمره - لما باغتتنا أزمة النفط الأخيرة، وهي بالطبع لن تكون آخر أزمات النفط والغاز، وذلك حتى ينجلي الشر من الأرض، والآن معرّضون لمباغتتين أخريين في الزراعة وصيد البحر، ما لم تتغير سياسة التعاطي مع هذين الرافدين المهمين بمسؤولية.

لقد أورد بالأمس الزميل الكاتب علي بن مسعود المعشني في مقالته الأسبوعية بجريدة الرؤية، نماذج ناجحة من الشقيقة دولة الكويت، ونحن والحق يقال ننعم بحرية رأي ممتازة في السلطنة كتلك التي في الكويت، فقد ضمنها للجميع جلالة السلطان قابوس المعظم - أعزه الله وأبقاه - ومع ذلك حاول بعض المسؤولين المحنطين بعقلية الانغلاق والتقوقع، الالتفاف على هذه الحرية وتحوير معناها، فأطاعهم من أراد السير بجوار الحيط وعدم تصديع رأسه، ولكن عزاؤنا في البقية من الكتاب، الذين مارسوا هذه الحرية بفاعلية وحق وعقل، وأثبتوا للعالم أن عُمان لا تكمم الأفواه، لأنّ فيها شعبا عاقلا لا داع للحجر عليه، فذكر الزميل علي المعشني في أحد الأمثلة الجمعيات الخيرية بالكويت، والتي ساهمت بتنمية المجتمع، وحفظ للناس كرامتهم ورزقهم، وهي تديرها الدولة وتدعمها، وكذلك القطاع الخاص، فهذا هو الشيء المهم للناس في هذه المرحلة، أن يجدوا حاجياتهم بأسعار تناسب قدراتهم، فلماذا لا نقلد ونطور الجوانب الناجحة؟ والتي تحقق أهدافنا في بلدنا.

إن حضّ القطاع الخاص الوطني على تبنيِّ بعض الجمعيات إلى جانب الحكومة والتي قد نحصرها في وزارتي الأوقاف والشؤون الدينية، والتنمية الاجتماعية أمر مهم وضروري، فللأولى أموال الأوقاف وبيت المال، وأموال رعاية الأيتام، وللثانية بصفتها الراعي للضمان الاجتماعي والتنمية المجتمعية فأموالهما مدفوعة من الدولة، وكما يقول المثل "من دهنه حليله" فتشغيل الناس بالأموال التي تعود عليهم بالنفع مرتين، فبالإضافة إلى تنمية تلك الأموال، فهي تكسبهم خبرة في العمل والتجارة، وكذلك تنمية تلك الأموال بالتدوير التجاري، وقد تستغني هاتان الوزارتان يوماً ما عن الدعم الحكومي لهما، وبالعودة إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فقد يساعدها الدخل الإضافي من التجارة على تطوير أداء الأئمة، وأن ترفع من مكافآتهم، وحتى إشغالهم في إدارة محلات المساجد، وكذلك ستسهم في صيانة المساجد، وهناك متقاعدون كثر قد يجدون عملا بالقرب من منازلهم، إذن متى ما أصغى المسؤول إلى كلام الناس، سيجد فكراً متجدداً، قد يجد فيه منفعة عامة، إذا ما تواضع وأرخى السمع للآخرين، وعدم الظن أنّ الفكر النافع والصائب فقط يأتي من صاحب السلطة والمنصب.