حمد بن سالم العلوي
إنَّ القلاع والحصون العُمانية التي أنشأها الأوائل للدفاع عن الوطن، لم ينته دورها كحصون دفاعية في ذلك الزمن البعيد، وإنما امتد أثرها المعنوي إلى اليوم والغد، فهي خير شاهد على ثقافة أمة بُنيت على العزة والكرامة، ونبذ الذل والفرقة والهوان في سبيل أن تظل عُمان سيدة التاريخ والمكان، عُمان التي مازالت تزخر بكم هائل من القلاع والحصون، ينبغي عليها ألا يغرُّ أهلها طيب العيش وراحة البال، ولا أن تتعامل مع ماضيها مُعاملة المتقاعد المهمل، كما هو الحال في بلاد كل العرب، هذه عدوى سيئة انتقلت إلينا، وحتى لا نكون شبهاً للآخرين، وإنما الواجب أن يكونوا هم شبهاً لنا، فنحن لا نزال نحتفظ ببقية من تاريخ العرب، فهم غيروا الملبس واللغة وغيرهما الشيء الكثير والأهم، فلن نذكرها هنا بعداً عن التفاصيل منعاً للتأويل، فطالما كانت سيرتنا في التاريخ مُختلفة عن الكثير من العرب، فلنبقيه مذخوراً مكنوناً في الصدور وأمهات الكتب، ولا يضير التاريخ عبث من ليس له أثر يُذكر.
إذن القلاع والحصون العُمانية تظل لها قراءة خاصة، لا يفهمها إلا الراسخون في علم التراث والتاريخ العميق، ولكن الواجب يحتم علينا كعُمانيين، أن نُعظّم ونُكرّم أجدادنا وتاريخهم المجيد، وألا نهمل تاريخهم حتى لا نبتر امتدادنا بأيدينا عنهم، وذلك قبل أن تبترنا أيدي العابثين الحاقدين الحاسدين، فلا يكفي أن نُرمم بعض القلاع والحصون، وندفع في ذلك الملايين، ثم نهملها لتندثر من جديد، وهناك الكم الأكبر منها ما يزال يرزح تحت وطأة عوامل الزمن لتعوي فيه الرياح، وتسكنها الهوامش والأشباح، حتى تنطمس معالمها وتبتلعها الأرض.
ذلك على أمل أن تأتي أجيال قادمة تشغل نفسها بالتنقيب عن الآثار القديمة من جديد، لأنَّ قيمة القلاع والحصون ستظل غائبة عن أذهان الناس، حتى تعظّم شأنها الحكومة مُمثلة في وزارة التراث والثقافة، فأذكر وأنا ما زلت طفلاً صغيراً، أن أجمع كبار القوم في قرية ما، على هدم جزءٍ من برج ضخم كان ينتصب وسط القرية، وذلك للاستفادة من حجارته في غرفة "نضد" لتمور المسجد، ولو أنهم جلبوا حجارة من جوارهم القريب، لبنوا منزلاً كاملاً ولن ينقص من ذلك الجوار شيء، وسيكون ذلك بجهد أقل من جهد هدم البرج، وقد نعذر تلكم الأجيال، لأنها فكرت في الجانب الأمني، ولم تفكر في القيمة التاريخية للبرج.
كما إنَّ هناك قيمة كبرى في موروث آخر لا يقل أهمية من القلاع والحصون، ألا وهي الحارات القديمة، فآخر تقدير نالته هذه الحارات القديمة، أنها جعلت سكناً للعمالة الوافدة، وهي تعيث فيها فساداً وإتلافاً لمكوناتها الأساسية، وقد بلغ استخفاف الناس بقيمة وجمالية تلك المنازل، أن حولت زرائب للحيوانات، ومكباً للسماد من روث تلك الحيوانات، وفي أفضل الحالات تركت تتهاوى بفعل عوامل الطبيعة، وسيظل الحال كذلك حتى يأتي جيل جديد من البشر يعرف القيمة الحقيقية للموروث، إن التنكر للتراث والموروث الوطني له عواقب وخيمة، لأنَّ تلك المنازل والحارات لها قيمة معنوية كبرى، لا تضارعها كل الماديات الحديثة.
ويكفي أن نعلم أن هذه القلاع والحصون والأبراج والمنازل، قد تم بناؤها دون تصاريح وإباحات صغرى وكبرى من البلدية، وبدون خرائط ورسومات هندسية، ومع ذلك صمدت قروناً ودهوراً بعيدة في التاريخ، وإن كل سنتيمتر من ذلك البناء، قد مسحت عليه يد إنسان خبير رغم أنه بلا شهادة إلا شهادة (ألا إله إلا الله) حتى استقام ذلك البناء وقام على شكل جميل، فهناك من اكتفى بدور واحد أو ارتقى ببنائه عدة أدوار، وإن ليس للآلة أو الرافعات الهيدروليكية أي تدخل في رفع المواد، إذن الناس الذين يعطون قيمة بالغة للصناعات الحرفية اليدوية، ويعشقون مثل هذه الأعمال لأنها ذات قيمة معنوية وفنية، سيفخرون بزيارتها أو العيش فيها ولو ليلة واحدة.
لقد زرت ذات مرة مسؤولاً سابقاً عن البلديات، وكان على رأس عمله، طالباً منه الدعم المعنوي والقانوني للحفاظ على بناء قريتنا القديمة، شاكياً له أن بعض الناس ينون استبدال البناء القديم بالطوب الأسمنتي الدخيل عليها، فقص عليّ قصة حدثت له عندما زار اليابان، هو وجمع من مسؤولي البلديات من بلاد عربية أخرى، فقال رتَّب لنا اليابانيون زيارة لموقع أثري في ضواحي طوكيو البعيدة، فظلت تسير بنا الحافلة لأكثر من ثلاث ساعات، حتى وصلنا المكان المستهدف بالزيارة، فقال ظننا أننا سنرى شيئاً مهولاً فوق التصور، وعندما وصلنا ذلك المكان أخذونا إلى بعض حصيات باقية من بناء جدار قديم، وكانوا ينظرون إلى أعيننا ينتظرون أن يروا فيها اندهاشاً كبيراً لما رأينا، ما علموا أننا نملك في بلداننا خاصة نحن في "عُمان واليمن" أحياءً كاملة، ولكن للأسف الشديد لم نعطها عُشر اهتمامهم هم بتراثهم. ترى ماذا لو قمنا نحن في عُمان بترميم هذه الحصون والقلاع والحارات القديمة، وحولناها إلى استقطاب للسياح الأجانب، الذين يعلمون القيمة الحقيقية للموروث التراثي، ولم نجعلها فقط مزاراً للاطلاع والاستمتاع بها كموروث ثقافي وتاريخي، بل حولنا معظمها للسكنى الفندقية، حتماً سيرون فيها فخامة ذات عشر نجوم، وليس سبع نجوم، كما تصنف بعض الفنادق الزجاجية الحديثة، وطلب إلى الباعة العُمانيين بالتحلُّق حولها، بما لديهم من حرفياتهم وصناعاتهم الوطنية ومشغولات يدوية ومنسوجات، وحتى الوجبات الغذائية المحلية من "هريس وعرسية ولحم تنور ومشاكيك وخبز رخال" وغير ذلك الكثير، أجزم صادقاً أن صناعة السياحة في عُمان، ستكون مثار إعجاب واهتمام الكثير من الزوار والسياح، أؤكد على الأجانب وليس العرب، لأن العرب ليس لهم اهتمام بالتراث والتاريخ.
إذن آن الأوان أن ندخل بجرأة وإقدام عالم السياحة الحقيقية، وأن نعقد العزم على حل كل العقد البيروقراطية الإدارية العقيمة، وأن ننشأ مجلساً وطنياً ليُدير شؤون السياحة والحارات، وأن يحسم شأن المنازل مجهولة المالك، بأن يؤول ريعها لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فإذا ظهر من يدعيها وثبت له ملكها، أن يؤول إليه ريعها من تاريخ الإثبات، وألا تعقب على عمل هذا المجلس أية جهة كـ "البلديات أو البيئة أو الإسكان ولا التجارة والصناعة أو أية أجهزة أخرى" وأن نضع أيدينا كمجتمع مع الحكومة والقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، بحيث تنشأ آلية حديثة جريئة واضحة معلنة للجميع، وبذلك سيتم النهوض بصناعة السياحة بصدق ودون عراقيل. وبذلك سنغير المسار السلحفوي إلى خطوات الغزال، وسنخرج عن المألوف الذي ظل يسير بنا خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف، ذلك عندما يقفل الباب على "شياطين" التعقيد فستكون كل الخطوات إلى الأمام سهلة وسريعة، وبذلك سنحرِّم الرجوع إلى الوراء، ولن تمضي إلا سنوات قليلة حتى نرى عُمان تعتمد على ذاتها، وقد تحرر اقتصادها بالابتعاد به عن تخبطات النفط وغيره من الأشياء الوقتية والناضبة، والذين خطط ليكون الدخل من الرسوم والضرائب، كمشروع سهل مفضل، سيأتيهم المال من الاقتصاد القوي، ومن زكاة الأموال الطائلة، ومن التصدير والتجارة البينية المتوازنة .. هذا وبالله التوفيق والسداد.