علي بن كفيتان بيت سعيد
ظلت واقفة لزمن طويل وهم يقومون دون رحمة بتقطيع أطرافها، وبعد أن أنهوا معظم وجودها، أطلقوا عليها تفث مالهم ليلتهم بلا شفقة كل أبنائها وتركوها وحيدة في أرض خلاء، يذهبون إليها لقضاء أمتع أوقاتهم ويوقدون النار تحت جذورها وعندما يذهبون يتركون لها قمامتهم، يا للعجب!!! اليوم يتنادون لإنقاذها بعد أن رحمها الله من هذه العيشة المهينة، يشمرون عن سواعدهم التي ربت من أكنافها لكي يعيدوها إلى عذابهم المستمر فلا نقول لهم إلا أتركوها ترقد بسلام وعظّم الله أجركم.
هي ظلهم الذي يقيهم هجير شمسهم الحارقة عندما كانوا لا يجدون ما يسترون به أجسادهم العارية، ثمارها وجبات هنية لهم، وكانت وقود نارهم في الليالي قارصة البرودة والمطر، بنوا منها بيوتهم وكانت أوراقها علفا لماشيتهم القليلة، ثم تنكروا لها وغرّتهم المدنية فامتلكوا جيوشا من الأغنام والإبل والأبقار ترفاً ووجهوها إلى الأم الرؤوم بلا رحمة حتى باتت اليوم تنعي نفسها من أفعالهم.
حسبوها من كوكب آخر ونمت من عالم الفراغ وليس لها قيمة محسوبة لذلك تاهت عنها الموازنات المالية رغم أنّها حملت أركان بيوتهم وقصورهم فيذكر الرواة أنّ مئات الإبل تدخل إلى الريف وتعود بكامل حمولتها من الأخشاب التي شيدت تلك المدن الجميلة على الساحل، بقاياها اليوم تملأ فنادقهم وشققهم بالسياح وتجلب إلى جيوبهم ملايين الريالات، ورغم ذلك نقول لهم لا ترفعوها مجدداً اتركوها تخلد إلى الراحة فالنمل الأبيض بات يحسب لسقوطها منذ زمن طويل، لقد مرر قنواته الترابية المحكمة إلى شرايينها فعزل جذورها عن أوراقها ومن ثم أسقطها الريح والمطر لا تحرموا النمل الأبيض من وجبته الأخيرة.
هذه الأجساد الواقفة شاهد على نكراننا وجشعنا الدائم؛ فرغم أنّها باتت ميتة إلا أننا نستظل ببقايا جذوعها اليابسة، أرجوكم لا تواروا سوءاتكم فالجنائز التي تحملونها أنتم من قتلها وعندما توقفوها فلن تلد لكم أبناء جددا؛ لأنّها أصبحت عقيمة من أفعالكم وقهر السنين. يجب أن تعلموا بأنّ لكل مخلوق دورة حياة ثم يرحل ولا تبقى إلا الذرية وأنتم من أحرق ذرية تلك الأجساد على مر السنين.. والسؤال ماذا أنتم فاعلون بجيوش إبلكم وأغنامكم وأبقاركم وفنادقكم الفخمة بعد أن ترحل آخر الأجيال الخضراء من جبالكم.
لا تلوموا أحدا غير أنفسكم على هذا الفقدان الجلل فكل محاولاتكم العبثية لن تجدى نفعاً، فإغلاق الطرق بالأحجار لمنع مرور السواح، وجمع بقايا أكياس النايلون، ودفن جذور الأشجار الميتة، والترويج السياحي الموسمي ليست سوى مادة دسمة للثناء على مواقع التواصل الاجتماعي والحقيقة بأنّ الجميع شركاء في فناء الطبيعة فعجباً لمن يشيد الطرق الإسفلتيّة للمواقع السياحية وعيون المياه، ويبني الاستراحات، ودورات المياه، والمواقف العامة، وينفق عليها ملايين الريالات ولا يخصص 1% لزراعة أشجار جديدة، وعجباً لمن يتباهى في تقاريره السنوية بنمو الثروة الحيوانية ولا يعير اهتماماً لإدارتها بشكل مستدام، وعجباً لمن يكتفي بالصور الجميلة التي يزين بها تقاريره الوطنية للمنظمات الدولية ولا يساهم بشيء على أرض الواقع !.
الماضي يتباهى بذلك الخضار الذي يسد الأفق وتنسج حوله آلاف القصص والروايات الجميلة، أمّا الحاضر فبات رمادياً كئيباً، والمستقبل عبارة عن سيناريو حزين ينذر بفقدان الأمهات الخضراء من جبال عُمان، هناك في الجبل الأخضر لا زال بقايا نظام تقليدي يقاوم؛ لأنّ الإنسان هناك مختلف؛ أمّا في ظفار فقد بات الجشع والأنانية هما أسياد الموقف. أناس تحمل أجساد أشجار ميتة لتوقفها مجدداً ولا يكلفون أنفسهم زراعة أخرى، يطلقون آلاف القطعان صباح مساء لتنهي بقايا الأشجار التي نجت من محرقة السنين ولا تؤنبهم ضمائرهم حين يرونها تقشر لحاء الأشجار ولا يهتز لهم طرف وهي تقضم كل بادرة خضراء جديدة، واليوم باتوا كالملائكة يعيدون بقايا الأشجار التي اقتلعها مكونو ربما هي صحوة متأخرة ستقود لمبادرات أعمق وهذا ما نتمناه.. لكنني لست متفائلاً.
قبل الختام عذراً لمن أثنيت على مبادراتهم الخجولة بعد إعصار مكونو حول إعادة الأشجار الطبيعية فقد خانتني العاطفة ورغم ذلك أرجو ألا يكون دافعهم لذلك رعي بقايا الوريقات التي قد تظهر في جنباتها بعد الخريف.
alikafetan@gmail.com