أحلام على جدار القلب


هبة عبد الغني عبد المحسن - مصر


    كالساحر يرسم الفراشات والورود على خدود الصبايا والأطفال فتنتشر الضحكات كالنجوم تضيء قلوبًا أنهكها اليأس.. يحول جدار أصم إلى لوحة فنية نابضة بالحياة حيث الأنهار والطيور والأشجار وتدفق الشلال من بين أحضان الجبل .. تتعانق ألوان الطبيعة مع أضواء قوس قزح تنبعث الأصوات وتتعالى نبضات الحياة لا يسمعها إلا قلب "فارس" الفائض بالمشاعر الجياشة نحو حبيبته "فداء" يرسم على جدار أخر في أحد الطرق بيتًا صغيرًا محاطًا بأشجار الزيتون وزهور الجوري الأحمر، ويتمني من الله أن يجمعه مع حبيبته في ذلك البيت الجميل..
    فارس شاب فلسطيني وُلد على أصوات القصف الإسرائيلي وعاش طفولته بين نيران الحصار، لم تؤثر قسوة الأحداث والظروف المحيطة به على وجدانه المرهف ولم تقتل الأحلام داخل قلبه الرقيق، ورغم كل ما مر به وفقدانه لوالده وأخوته إلا أنه يحيا مع والدته ولم يفكر في الهرب من فلسطين فلا يستطيع التخلي عن وطنه ولا عن حبيبته التي تفتح قلبه كالزهرة على حبها منذ الصغر.
    ولأن الأيام لا تبالي بما نحب وما نكره،  ولأن الأقدار تغير مجرى حياتنا في لحظة لم نكن ندركها أو نتوقع ما ينتظرنا في طريقنا المجهول بين جناحي الدنيا ، ولأن الموت لا يمهلنا لحظة وداع لمن نحب .. أشرقت الشمس ذات يوم على استشهاد والد فداء وأخيها الوحيد بنيران الجيش الإسرائيلي الغاشم القاسي، كانت دموع فداء تتساقط بين كفي فارس نارًا تحرق قلبه قبل كفيه.. واساها طويلاُ ووعدها أنه لن يتخلى عنها أبدًا ...
    مرت الأيام على والدة فداء ثقيلة رتيبة من الحزن والأسى على فقدان الزوج والابن حتى قررت ألا تخسر ابنتها فداء أخر من تبقى لها من الدنيا وعزمت على الهرب من الحصار من أي معبر أو ممر في أقرب وقت، عارضتها فداء كثيرًا لخطورة ذلك عليهما ولحبها لوطنها ولفارس، كانت هذه أول مرة تعلم والدتها بحبها لفارس ولكن ذلك زادها إصرارًا على قرارها بالهرب من ذلك الجحيم والنجاة مع ابنتها الوحيدة، ضعُفت فداء أمام والدتها ورضخت لرغبتها في الهرب من الحصار .
     ودعت فداء فارسًا.. أمهلهم القدر لحظات تناجيا فيها كالطيور المهاجرة أول الشتاء تركت له منديلاً أبيض - ليذكرها به - نقشت عليه اسمه بالخيوط الذهبية وطوت زهرة حمراء داخل قلب المنديل فتبخر عبيرها بين نسيجه الأبيض، بينما أعطاها فارس مصحف أخضر صغير ليحميها ويحفظها ..
  مرت لحظات الوداع سريعة يغلفها الرجاء والأمل في اللقاء، والوعد بالعودة والاتصال ..
    وما كادت فداء ووالدتها يعبران الحدود حتى ظل فارس يبكي كالطفل الخائف حيث جاءته أخبار بتعرض عدد من الفارين للقتل والإصابة البالغة !
أخذ يبكي ويكتب على جدران الطرق "بس يفك الحصار راح أجي أخطبك حبيبتي " ظل يكتب ويرسم ولا يرى أمامه إلا صورته ممسكًا بيد فداء ويسيران معًا وسط الحشود متجهين إلى القدس،  وبيتهما الجميل المحاط بالزهور وأشجار الزيتون تحلق فوقهما أسراب الحمام، حتى غلبه ألم الرصاص الغادر ينغرس بين عظام صدره ويستقر في قلبه البريء الحالم .. غرق منديل فداء في دماء فارس واختلط بعبير الزهرة الذابلة.. احتضن فارس المنديل بقوة وسقط على الأرض لا يرى سوى صورة حبيبته تمسك يديه مبتسمة.

 

تعليق عبر الفيس بوك