العريضة الوطنية في البحرين... الكلمة الفصل بيد جلالة الملك

 

عبيدلي العبيدلي

أثار مشروع التقاعد المُقدم من قبل حكومة البحرين، مجموعة من ردود الفعل المُتباينة. فبينما حظي، بموافقة مجلس الشورى، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ هذا المجلس، لم يُوافق عليه، بخلاف ما كان متوقعًا، المجلس النيابي. لكن، على مستوى آخر، وخارج إطار المؤسسات الرسمية المسموح لها بممارسة العمل السياسي، كان هناك ما يشبه الإجماع الشعبي المناشد للحكومة بإعادة النظر في المواد المُعدلة، وتلك المضافة. ولربما كان من النتائج غير المباشرة، وغير المتوقعة أيضًا، من ذلك الحراك الذي ولده التعديل المُقترح، هي العريضة الشعبية التي ما تزال حملة كسب التوقيعات نشطة بشأنها، والتي حملت مجموعة من الدلالات رافقها مجموعة أخرى من السيناريوهات المحتمل أن تفرزها هذه المبادرة. وقبل التطرق لأيٍّ منهما، لابد من الإشادة بالمبادرة، والنظر إليها من زاوية إيجابية، نظراً لكونها تأتي في مرحلة حرجة من تاريخ البحرين السياسي المعاصر، وفي فترة تقترب فيها البحرين من موعد الانتخابات النيابية للدورة الجديدة للمجلس الوطني.

على مستوى المدلولات يمكن رصد الأهم بينها في النقاط التالية:

1. أنها تؤكد، بخلاف ما يتوهم البعض، ويروج له البعض الآخر، إن الحركة الشعبية في البحرين، تُعاني من بيات شتوي سياسي، يشل قدرتها على الحركة، ويمنعها من استحداث وسائل جديدة مُبدعة، تقرأ مكونات الفضاء السياسي البحريني على نحو واعٍ، وتتحرك في إطار الهامش المتاح لها، والذي تسمح به الظروف المحلية والإقليمية السائدة في هذه المرحلة. فالحركة في حد ذاتها عبير ملموس عن حيوية هذا الشعب السياسية.

2. أنها صيغت بطريقة حذرة، نجحت في عدم استفزاز أي من أطراف مكونات العمل السياسي في فضاء البحرين السياسي المتاح. فجاءت محتوياتها، والطريقة التي تمَّ الترويج بها لها، بطريقة حذرة تحاشت الدخول في مُهاترات مع أي من القوى السياسية، من جانب، وعدم استفزاز أي من دوائر صنع القرار في مملكة البحرين من جهة ثانية. وهذا أمن لها متطلبات الحد الأدنى من كسب التعاطف الشعبي معها، إلى جانب تحاشي توليد أي قوى معارضة لها أيضًا.

3. أنها لم تتجاوز سقف الحريات السياسية المتاحة في هذه المرحلة، بدليل أنَّ الدوائر الحكومية ذات العلاقة اكتفت بلزوم الصمت، وتحاشت أية ردة فعل تشير إلى عدم قبولها بحركة الشارع، في نطاق الدائرة التي اختارتها العريضة لنفسها. وهذا يتناول شقين في غاية الأهمية: الأول منهما هو أن محتوى العريضة لا ينطوي على ما يُمكن أن يستفز الجهات المسؤولة. والثاني هو أن الرسالة، كما قرأتها الجهات الرسمية المعنية، تصب في صلب المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك، وتحمل في أحشائها تأييداً مبطناً له، بل وتموضعه في خانة جديدة في فضاء العمل السياسي البحريني المعاصر.

4. أنها كسرت بعض المسلمات التي سادت الشارع البحريني منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، ومع انطلاقة المشروع الإصلاحي الذي قاده جلالة الملك، وفي المقدمة منها الاحتكارات السياسية التي مارستها بعض القوى لقطاع واسع من الشارع البحريني المسيس، الأمر الذي سينعكس مباشرة على مسيرة العمل السياسي البحريني خلال الفترة المُقبلة، وفي المقدمة منها الانتخابات النيابية للدورة الجديدة. ومن ثم ينبغي أن يهيئ المواطن البحريني نفسه لمُفاجآت نيابية غير مسبوقة.

5. أنها خطوة متميزة لجس نبض ردة فعل السلطة تجاه أي تحرك شعبي لتوسيع هامش الحريات المتاحة، ومن ثم السقف الذي بوسع القوى المعارضة أن تصل إليه في حركتها المقبلة. وهذا بدوره يمكن أن يرسم الخطوط الجديدة للعلاقة بين طرفي العمل السياسي البحريني: السلطة والمعارضة فتشكل إضافة نوعية جديدة للمشروع الإصلاحي، ونقلة أخرى نحو الأمام تمده ببعض المقويات التي أشار لها جلالة الملك في مطلع تسلمه سدة الحكم، حين كرر في أكثر من مناسبة "الأيام الجميلة لم نعشها بعد."

6. أنها تبشر البعض، وتنذر البعض الآخر، باحتمال تشكل معارضة من قوى جديدة تبني نظاما بيئيا جديدا (ecosystem)، يبني نمطا جديدا من أشكال المعارضة، التي تستخدم أساليب مختلفة غير معهودة، وتحقق مكاسب، وإن كانت طفيفة، لكنها قابلة للتراكم، لإحداث النقلة النوعية الإيجابية المطلوبة، في فترة زمنية قياسية.

 في ضوء تلك المدلولات، وفي نطاق إفرازاتها السياسية المحكومة بمجموعة من العوامل الخارجية أيضا، يمكن رسم السيناريوهات المحتملة التي ستولدها هذه الحركة في النقاط التالية:

v. تقابلها الدولة بما يمكن وصفه بالتجاهل الإيجابي، وهو أنَّها لا تتعاطى معها بإيجابية ملموسة، مُحددة المعالم، لكنها في الوقت ذاته، لا تقدم على ما يمكن أن يشير إلى معارضتها لما جاء في العريضة، أو ما جاءت به على مستوى إعادة شيء من الحياة للشارع السياسي البحريني. ومن ثمَّ فمن غير المستبعد أن تتطور الحركة كي تصبح من مجرد مجموعة من التوقيعات، مهما بلغ عددها، على عريضة، إلى مكون مستقر من مكونات العمل السياسي البحريني المُعاصر. هذا لن يتم بشكل تلقائي، فهو بحاجة، لكي يأخذ شكله النهائي المستقر، إلى بعض الوقت والكثير من الجهود المتأنية، لكنها المُستمرة، والمصممة في آن.

تكافؤها الدولة بموقف إيجابي، وتحقق العريضة أهدافها الرئيسة، فتكسب مواقع شعبية راسخة تؤهلها لأن تتطور بشكل، ربما ببطء، وربما بخطى سريعة. فكل ذلك مرتبط بردود الفعل التي ستتلقاها من مكونات العمل السياسي البحريني، سواء بشكل مشترك، أو منفرد، كي تأخذ شكلاً تنظيميا يبيح لها التحول إلى جمعية سياسية مصرح بها، تمارس العمل السياسي في نطاق ما يسمح به القانون، ويتيحه الدستور.

v تواجهها بعض القوى السياسية بشيء من السلبية غير العدوانية، التي تضمن لها عدم مباركة الحركة الشعبية من جانب، لكنها، لا تكشف عن تهنئة يمكن أن تحقق للحركة الشعبية موطئ قدم في الشارع السياسي الذي تحظى الأولى بمواقع متميزة فيه، وتتحكم في نسبة عالية من حركته. ومن ثم فمن السيناريوهات المحتملة: إما أن نشهد حركة غير متوقعة تقوم فيها تلك القوى السياسية بحركة انقلابية ضد الحركة الشعبية، أو أن تفتش لنفسها عن موقع متقدم لها في صفوفها، كي لا تفقد علاقتها مع شارعها.

بعيدًا عن كل ذلك، تبقى لجلالة الملك الكلمة الأولى والأخيرة. فوحده اليوم، دون سواه، القادر على أن يجعل شعب البحرين يقيم احتفاله الجديد كي يستطيع أن "يعيش تلك الأيام، التي يحلم بها، لكنه لم يعشها بعد".