الخالق والفواعل المستقلة:

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا(7)


محمد رضا اللواتي - مسقط


استعرضنا في الحلقة المارة نشاطا فكريا حاول تقديم رؤية حول صلة الفعل الإلهي بأفعال البشر، إنتهى به الحال إلى حصر التأثير في الخالق فحسب، وإلغاء نظام الأسباب والمسببات، وسكب نظرية الجبر في البيئة الاسلامية، وطرد المقدرة العقلية من ساحة ممارسة التفكير الحر في المسألة.
بالمقابل، نشط تيار فكري آخر، وقف في واجهة تلك الطريقة، أقر أول الأمر بأن الأفعال التي تصدر عن فواعلها في دار الوجود، هي ليست أفعال الله، بل أفعال تلك الفواعل. ينقل "السبحاني" عن أحد كبار منظري هذه الرؤية، "أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد الأسد أبادي" الملقب بقاضي القُضاة، ينقل عنه أنه كتب يقول: "قد عُلم عقلا وسمعا فساد ما تقوله المجبرة الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى، وجملة القول أن تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلقة بنا لحدوثها(1)".
والأمر تجاوز إعادة الأفعال إلى فواعلها الطبيعية والاقرار بنظام الأسباب والمسببات، فبلغ تخوم مسألة عالية جدا، إمعانا في تبرئة الساحة الإلهية مما يعمله غيره، وهي فك تمام ارتباط الفواعل الطبيعية بالفاعل الإلهي، بحيث أن العالم بعد الإيجاد، يستقل تماما عن الخالق الموجد، فلا يكون في حاجة إليه إلا لأجل الحدوث، فهو يمد يد الحاجة إلى الخالق ما دام لم يُخلق بعد، وما أن جرجرته يد الخلق إلى ساحة الوجود، إستقل!
يشير "صدر الدين" إلى هذه الرؤية فيقول: "ذهبت جماعة كالمعتزلة ومن يحذو حذوهم إلى أن الله قد أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال وفوض إليهم الاختيار فهم مستقلون بإيجاد تلك الأفعال على وفق مشيتهم وطبق قدرتهم (2)".
فلسفيا، تُطلق على الرؤية المارة عبارة "حاجة الممكن لعلته حدوثا وليس بقاء"، فالشفرة السرية التي أملت الاحتياج على الممكن للواجب، وفق هذه الرؤية، تتمثل في "الحدوث" فحسب، كما أن البناء محتاج للباني لكي يحدثه ويخلقه، فما أن خُلق، ما عاد بعد ذلك في حاجة إلى بانيه، فإن مات، ظل البناء على حاله.
يشرح الرئيس "إبن سينا" هذه الرؤية عن لسان أصحابها فيقول: "يقولون أنه قد أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل، حتى أنه لو فُقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا، كما يشاهدونه من فقدان البناء وقوام البناء، وحتى أن كثيرا منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضر عدمه وجود العالم (3)".
بهذه الطريقة، أعادت هذه الرؤية إلى الساحة الإلهية التنزيه، وأطلقت الحرية البشرية المكبوتة في فعل الخالق لتسرح وتمرح دونما قيد، فعاد الإنسان مسؤولا عن قراراته وصاحب إرادة فيما يريد ويختار.
كذلك، ناصرت هذه الرؤية "المستقلات العقلية" التي كانت الرؤية السابقة قد طردتها ورفضت الإقرار بها. أعادت هذه الرؤية تلك المستقلات العقلية، كالحُسن والقُبح، واعتبرتهما حقيقتان وراء الفعل الإلهي ومستقلتان عنه، يدركهما العقل بشكل واضح، ويقيس عليها فعل الله، فالله يُنجز أفعاله وفق معيار الحسن والعدل (4).
فإذا كانت المستقلات العقلية معيارا لفعل الله تعالى، والله يصب فعله على هيئة العدل وينظر إلى المصالح والمفاسد، فأفعاله "معللة بالأغراض"، أي أن لأفعاله غايات وهي رعاية المصالح.
إذن، رؤيتان فكريتان الأولى منهما ألغت كل فعل غير فعله تعالى، وبالتالي لا معنى للحرية البشرية، ولا لنظام الأسباب والمسببات، فضلا عن وجود معايير لقياس الفعل الإلهي من حُسن وقُبح ذاتيتان في الأفعال يُدركهما العقل، هذه كلها غدت معطلة بالمرة وفق هذه الرؤية.
هذه الرؤية ما تمكنت من تتسق مع الآيات من قبيل: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" و"إنما تجزون ما كنتم تعملون" و"لتُجزى كل نفس بما تسعى" و "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" و"اعملوا ما شئتم" و"وقل اعملوا" و"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" و"ربنا ظلمنا أنفسنا" و"استعينوا بالله" وغيرها المئات، التي تصرح بتأثير غيره تعالى في الأحداث، ما عادت تتسق مع تلك الرؤية بتاتا.
والرؤية الأخرى نزعت أفعال الفواعل عن فعل الله تماما، وقطعت الصلة بينهما وعدت الممكنات مستقلة عن الاحتياج إلى الخالق بعد الخلق، محررة بذلك الحرية البشرية، ومعيدة للمعايير العقلية عملها في قياس الفعل الإلهي، إلا أنها حددت القدرة الإلهية ووضعت لها قيود! أيضا، ما تمكنت من تتسق مع ألايات من قبيل : "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد" و "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله" و "ولو شاء الله ما فعلوه" و "فلو شاء الله لهداكم أجمعين" و "قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله" و "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" وغيرها المئات، التي تصرح بأن ما من تأثير إلا وهو خاضع لمشيئة مقام وجوب الوجود، ما عادت هذه الآيات تتسق مع هذه الرؤية بتاتا أيضا.
الرؤية الأولى أسقطت من حسابها "التنزيه" لأجل الحفاظ على "التأثير الحصري" لصفة "الخالقية" للمقام الإلهي، فأضحى مقام وجوب الوجود مسؤولا عن كل قبيح يقع في أنحاء هذا الوجود، في حين أسقطت الرؤية الأخرى "القدرة" من حسابها لأجل الحفاظ على "التنزيه" في صفة "الخالقية"، فأضحى مقام وجوب الوجود محدودا لا يستطيع تأثيره بلوغ عالم الإمكان ونطاق البشر.
التوحيد الأفعالي بحسب الرؤية الأولى محفوظ لكنه ملوث بأدران فظائع أعمال البشر، وبحسب الرؤية الثانية، ما عاد مسؤولا عن أعمال الغير،لكنه، بفقدانه التأثير على أفعال الغير، أضحى في مهب الريح!
ينقل "مطهري" حوارا ظريفا يكشف عما وصفنا الرؤيتين به من حال، وقع بين "غيلان الدمشقي" الذي كان يجوب أقطار البلدان الاسلامية يدعو إلى أن الإنسان حر مختار، وبين "ربيعة الرأي" الذي كان متشبثا بفكرة الجبر، فقد جاء "الدمشقي" إليه وقال له "أنت الذي يزعم أن الله يُحب أن يُعصى؟" بمعنى أنه وبحسب عقيدتك في الجبر، فإن الله الذي أرسل الأنبياء ليهدوا الناس إلى عبادته، وإذا به يخلق في الناس صفة الكفر والمروق عن الدين، فعاد بخلقه السيئات من الأفعال، مُحبا للمعصية، رغم أنه ينهى عنها في التشريع!
فرد عليه "ربيعة" يقول: "وأنت الذي يزعم أن الله يُعصى قهرا؟" وهو يقصد بذلك: وفق عقيدة التفويض والاستقلال عن الله، ما عاد الله بقادر أن يمنع العاصين عن المضي في عصيانهم إن أراد منعهم. لقد أضحى محدود القُدرة ضعيف التأثير!
وشبيه بهذا الحوار الذي ينظر دائما إلى نقطة ضعف الخصم ولا يلتفت إلى نقاط ضعف رؤيته، دار بين "القاضي عبدالجبار" و "أبي إسحاق الاسفرايني" الذي كان يقول بالجبر، فلقد إبتدأ الحوار "القاضي عبدالجبار" بقوله: "سبحان من تنزه عن الفحشاء" وهو يريد بذلك أن يقول للاسفرايني بأنك بعقيدتك في الجبر ألصقت بالألوهية ما لا يليق، وإذا بالاسفرايني، ودون أن يلتفت إلى ما بأطروحته من ضعف، يهاجم أطروحة "عبدالجبار" بقوله: "سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء"، أي إنك أيها القاضي باعتناقك مقولة عدم احتياج الاشياء للخالق بعد الخلق قد زعمت أن الله عاجز في ملكه فلا يمتد تأثيره على الأشياء بعد أن خلقها .
دخل "الحسن البصري" على "أبي جعفر محمد بن علي الرضا" فتناولا هذا الموضوع، فقال له "بن الرضا" محذرا: "إياك أن تقول بالتفويض، فإن الله عزوجل لم يفوض الأمر إلى خلقه وهنا منه وضعفا، ولا أجبرهم على معاصيه ظُلما ".
نعود إلى صفة الخالق في الحلقة القادمة، نتلمس فيها طريقا فكريا ثقافيا آخر، ذلك الذي لوح بوجوده "إبن الرضا" في حديثه مع "الحسن البصري"، ولكن بقراءة عقلية، نقدم معالجتها للأزمة الثقافية والفكرية المارة في عمق المعرفة الدينية لنرى مدى تمكنها من النجاح، والمعيار في هكذا أبحاث دائما هو توفر الأسس المنطقية للتفكير، فكلما كانت جلية وواضحة وبديهية، ضمنا للنتائج النجاح.
.......................
المصادر:
1.    السبحاني، جعفر: الإلهيات ص666
2.    الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية ج6ص369
3.    ابن سينا: الاشارات والتنبيهات ج3ص68
4.    مطهري، مرتضى: العدل الإلهي ص11
5.    مطهري، مرتضى: العدل الالهي ص32
6.    المجلسي، محمد: بحار الأنوار ج5 ص9

 

تعليق عبر الفيس بوك