د. عبدالله باحجاج
تُعدُّ المناطق الساحلية لبلادنا الخطوطَ الأمامية التي تُواجه عنفَ الأعاصير، وللأسف، لا تتوافر فيها الحدود الدنيا للتعامل مع مثل هذه الحالات الاستثنائية، بدليل حجم الأضرار الكبيرة الناجمة عن إعصار "مِكونو"، ويُخطئ من يعتقد أن عدم جاهزية ولاياتنا الساحلية (ضلكوت ورخيوت نموذجًا) قد كشفها "مِكونو"، وإنما هي مكشوفة للكل؛ فالزائر لها قبل هذا الإعصار سيكتشف ذلك منذ الوهلة الأولى.
وبعد الإعصار، فإن الحتمية التي تخرج من رحم معاناة المواطنين المستمرة حتى الآن، الإسراع في حماية مثل هذه الولايات الساحلية من مجالين أساسيين؛ هما: حماية هذه الولايات من داخلها، وفي الوقت نفسه العمل على إعادة إصلاح بنيتها التحتية من منظور قدرتها المستقبلية على استيعاب الأعاصير والفيضانات والأمطار العزيزة الناجمة عنها. هذان المجالان لم يُؤخذا بعين الاعتبار عند إقامة بنيتها التحتية أو البنية التي تربطها بحاضرة محافظة ظفار-صلالة- أو حتى عند إقامة المنازل فيها. فالتواصل البري معها قد انقطع طوال الطريق الجبلي من عدة جهات أساسية؛ أبرزها: منطقة المغسيل، وفي الوادي عند عقبة إغيثان، والانقطاع من هذه الجهات، متوقع حتى للإنسان العادي، لهذا لم تصمد هذه البنية طويلا، فانهارت سريعا، وأعاقت الوصول إلى هذه الولايات، وعمَّق ذلك معاناة المواطنين، التي تجلَّت أبرز صورها في عدم قدرة منازلهم على الصمود، وقلبت أوضاعهم المعيشية، وفقدانهم الماء والغذاء والاتصالات وانقطاع كل طرقهم الداخلية.. ومن كان يملك المعلومة الدقيقة عن الإعصار في الوقت المناسب تمكن من النزوح إلى صلالة، ومن افتقدها عاش الرعب الوجودي. وقد كانت لنا محاولة زيارة هذه المناطق يوم الجمعة الماضية، لكننا لم نتمكَّن من التوغل إلى ما بعد منطقة أجدورت، أي أننا نحتاج إلى 40 كيلومترا تقريبا حتى نصل إلى رخيوت، و70 كيلومترا تقريبا إلى ضلكوت، حتى نقف على الأضرار، ونقل صورة لم تنقل لنا حتى الآن. وكل من يطلع على حجم الأضرار التي أصيبت بها البنية التحتية خلال رحلتنا من ريسوت حتى أجدورت سيتضح له حجم التأثير، وماهيته، فقد وَجدنا انقطاعها بريًّا عن صلالة بصورة شبه كاملة، ولولا الطريق الترابي الموازي لقُلنا كاملة، وحتى هذا الطريق ستجد العربات الصغيرة غير الدفع الرباعي صعوبة بالغة في المرور منه، وعلى طول الطريق وحتى تلك المنطقة، كنا نشاهد عربات مواطنين متوسطة الحجم تحمل مياه الشرب وبعض الأغذية وأعلاف الحيوانات، في مؤشر على استمرار المعاناة رغم مرور أسبوع على الإعصار (من الجمعة إلى الجمعة). كما وجدنا كذلك استحالة كبيرة في التواصل الجوي معها بسبب كثافة الضباب على الجبال، وقد كانت المغامرة البحرية الأهلية هي المبادرة الجريئة التي كسرت العزلة بسفينة خشبية لدواعي إيصال المساعدات والمعونات إلى المواطنين.
وعلى طُوال هذا الطريق، وجدنا ما يسمى بالجسور متحطمة، وأعمدة التيار الكهربائي مكسورة، والمنازل مهجورة من سكانها، والمطاعم حول الطرق مغلقة والظلام يعم كامل المنطقة؛ مما اضطررنا للرجوع، حاملين معنا قناعة من رحم مشاهدات ميدانية -آنية وتراكمية- بأنَّ بلادنا في أمسِّ الحاجة القصوى لفكر جديد لإعادة بناء ما أتى عليه الإعصار، ولحماية سواحلنا من عنف الأعاصير.
وماهية الفكر الجديد الذي نطالب به يكمُن في كيفية إعمال الفكر على حماية الولايات الساحلية من عنف الأعاصير، والاستعداد المسبق لتداعياتها. ومنظور المناطق الساحلية يعطينا أبعد مدى من المتخيل له في الذهنية؛ فلا ينبغي أن ينحصر الفهم حوله على المناطق الملاصقة للسواحل مباشرة فقط؛ فنطاق هذه المناطق وفق امتداد تأثير "مِكونو" القوي يشمل ما بين (80-100) كيلومتر، مع الأخذ بعين الاعتبار قوة التأثير الأكبر على المناطق الملاصقة والقريبة للسواحل ثم تباعا...إلخ.
وهناك الكثير من حتميات الانتقال إلى الفكر الجديد المنشود؛ أبرزها تزايد الأعاصير في بحر العرب والمحيط الهندي، وما تحدثه من فيضانات وعواصف تضرب المناطق الساحلية، ومحافظة ظفار بكل ولاياتها المختلفة تعد مناطق ساحلية بكل بيئاتها المختلفة الساحلية والبرية والجبلية والصحراوية؛ وذلك لتداخل وتناغم البيئات مع بعضها البعض، بدليل تأثيرات الإعصار الأخير، مع التفاوت في التأثير والتداعيات، وهذا يشكل مدخلا أساسيا للفكر الجديد، ومنه ينبغي اعتبار نطاق (80-100) كيلومتر من ضمن النطاق الساحلي، مع الأخذ بعين الاعتبار جيولوجية ظفار التي تتميز بالجبال والأدوية التي تؤدي دورها بتدفق السيول والفيضانات من قِمم الجبال إلى مجرى سيول تخترق كبرى المدن في الولايات. ولنا تصوُّر هنا يتمثل في مشهد عدم التهيئة المسبقة لمنافذ السيول في صلالة، كيف ستكون التداعيات؟ لن نبالغ إذا ما قلنا إنَّ صلالة كلها ستغرق بكميات الأمطار التي هطلت عليها، فتحيَّة رفيعة المستوى لمن كان وَرَاء فكرة التهيئة المسبقة لمجاري السيول، فقد تم إدارة جزء من الأزمة قبل أن تقع الكارثة -لا قدر الله- ورغم ذاك، ظهرت مشكلة في بعض المنافذ، وتحديدا من جهة شارع الرباط.
إذن؛ محافظة ظفار هي في أمسِّ الحاجة لإستراتيجية لحماية المناطق الساحلية والسكان المعرضين للعواصف المدمرة، على أن تراعي هذه الإستراتيجية سُلَّم أولويات عاجلة، وفق انكشافات إعصار "مِكونو"، التي أظهرت أن الولايات الغربية في حاجة عاجلة لتدخلات سريعة ودائمة لخصوصية هذه الولايات التي تبعد عن صلالة 160 كيلومترا، وتتميز بتضاريس طبيعية صعبة جدًّا، تجمع بين مرتفعات الجبال الشاهقة من جانب، وقربها من الشواطئ المطلة على بحر العرب من جانب آخر، على أن يتم ذلك سريعًا، ومن متطلبات المجالين سالفي الذكر.
فأيَّة إستراتيجية أو خطة لا يُمكن أن تكون فعَّالة، ما لم تأخذ بعين الاعتبار وضع المنشآت السكنية هناك؛ فقد شُيدت المباني فيها سواء القريبة من الساحل أو تلك فوق قِمَم الجبال كخضرافي مثلا، بمواصفات غير كافية للتعامل مع أية حالة مناخية، فكيف بإعصار؟ فهناك الكثير من المنازل التي تقع قريبة من الساحل، وفي مستوياته، ورديئة التصاميم.. وبعضها بأسقف غير ثابتة؛ لذلك فمِن حقِّ هؤلاء المواطنين حماية سلامتهم وأملاكهم، والوضع يسرى كل مناطق الساحل من الغرب إلى الشرق؛ لذلك نقترحُ تأسيسَ صندوق تحت اسم "منحة الولايات الغربية والشرقية"؛ لتهيئة المساكن من حيث أسقفها ومداخلها ونوافذها لمواجهة مثل تحديات إعصار "مِكونو". فالقاطنون على السواحل نجد أغلبهم من الأسر البسيطة وضعيفة الدخل التي تعتمد على صيد الأسماك والزراعة؛ لذلك فإنَّ أية إستراتيجية طويلة أو خطة متوسطة الأجل، لابد أن تنفتح على هذه الحالات، فمنازلها سواء تلك القريبة من الشاطئ أو تلك التي فوق الجبال كلها غير مهيأة للأنواء المناخية العنيفة.
وفي زِيارتنا لمنطقة أجدورت الجبلية انكشفَ لنا الخلل، فلو كانت هذه المنازل مستوعبة للتحديات، لما هجرها ساكنيها، ولتعايش الأهالي في الساحل مع نظرائهم في الجبال، لكنهم هم جميعا يعانون من رداءة تشييد المباني التي لم تحرص الجهة المشرفة على تطبيق مواصفات قياسية معينة، فهل نترك هذا الوضع يدفع ثمنه المواطن؟ فأية خطة أو إستراتيجية تقفز فوق هذا الواقع، سيظل الأصل -وهو الإنسان- يعاني حتى لو استعنَّا بكبرى الشركات العالمية للجسور، وتسهيل المرور والتوصيل البري بين ولاياتنا الشرقية والغربية مع صلالة.
وتِلْكُم قضية نُعلي من شأنها هُنا بصَوْت مرتفع، بعد أن صَدَر بَيَان لمجلس الوزراء دون مستوى الإعصار، وتداعياته على الولايات الساحلية على وجه التحديد، في وقت ينتظر بلادنا تغيير مناخي متعاقب. وبالتالي، يتحتم توجيه التفكير إلى هذه المسارات الإنسانية الاجتماعية، وعدم حصر التفكير على إصلاح البنية التحتية فقط، وحتى عملية الإصلاح إذا لم تراعِ عُنف الإعاصر، وتتناغم مع تحدياتها المقبلة؛ فسوف تتكرر معنا عملية عزلة الولايات الغربية والشرقية برًّا وجوًّا وبحريًّا. وبهذا، سنستمر في تبديد الموارد، وهناك تساؤلات كثيرة تطرحها تداعيات الإعصار على هذه الولايات؛ مثل: لماذا لم يكن هناك مخزون احتياطي من الغذاء والمواد الأساسية في مثل هذه الولايات؟ ولماذا لا يتم إقامة هيئة إقليمية لحماية المناطق من الأعاصير؟ إعصار مِكونو يفتح الفكر للخروج من النمطية الفكرية وآليات العمل التقليدية، واستحداث أدوات وآليات تراعي ظروف وحياة الجماعات المحلية وأمكنة سكانها المعقدة جغرافيًّا؛ فهذه المناطق تُعاني حتى في الظروف الاعتيادية بسبب الخصوصية الجغرافية، وفي الأنواء المناخية معاناتها أشد، وقد أضيف لها الآن رُعب الأعاصير، كُنا نتمنَّى سَمَاع فقرة في بيان مجلس الوزراء عن معاناة هذه الولايات وعن ماهية الخطوة المقبلة للحكومة، عِوَضا عن إشادته بروح التعاون فقط، لكنه يظل مَعْنيًّا بالفكر الجديد الذي نطالب به هنا.. والله يحفظ البلاد والعباد، ويُمتع عاهل البلاد -حفظه الله- بالصحة والعافية.