الرحمن.. علَّم البيان

 

زينب الغريبية

"الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان" (الرحمن:1-4).. حكمة الله أن خلق الإنسان، وميزه بقدرته على العلم والتعلم بما وهبه من عقل، إلا أن البشر اختلفوا في مدى استخدام هذا العقل في التفكر فيما خلق الله، واكتشاف ما زال في إطار الغيب، كما أن الكثير ممن يتفكرون لا يدونون ما يختلج في أذهانهم، فيبقى حبيسَ صدورهم لا يعلمه أحد. وهنا يبقى أن تستفيد البشرية مما دُوِّن وأُعلَن عنه؛ لذا يتحمل المفكرون والمدونون المسؤولية الكبرى في نقل المعرفة التي عاهدوا الله عليها، لتتجلى عظمة الله في كل صغيرة وكبيرة منها.

إنَّ التأمُّل في هذه السورة، في ظل الواقع الذي يعيشه الإنسان المسلم، يكشف لنا عن مَوَاطن الخَلَل والتناقض التي نمرُّ بها، كما تعكسُ لنا إلى أيِّ مدى نتدبر القرآن حين نقرأه، أم أننا نمرُّ على الآيات دون أن نفهم معناها والبيان الذي تحمله لنا، والذي يحمل لنا الفائدة في دنيانا وآخرتنا، حين يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة "خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيان"، أي خلقه قادرا على البيان والإفصاح عن حقائق الأشياء، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل؛ وبالتالي هل أدرك الإنسان المسلم أن إيمانه يتطلب منه التمييز بين حقيقة الأشياء؟! وهل أدرك أن هذا التمييز المطلوب عليه ألا يقترب فيه من حدود مساحات معينة، وإلا قد تتشكل له صفة سلبية حول إيمانه؟! فما معنى أن يعرف الإنسان حقيقة أنَّه إنسان ما قد اتهم ظلما..ويسكت، أو أن يعرف أن زميلا له في العمل تمَّ التجنِّي عليه ويسكت، ولا يسعى لأن يدعم الحق من أجل أن يدحض الباطل، بل الأدهى أن نجدَ الغالبية العظمى تُناصر الباطل وتدعمه من أجل تحقيق فوائد معينة، أو أنْ نجدَ غالبيتهم يصمتون وكأن الأمر لا يعنيهم من باب التُّقية.

فأي بيان تعلمته من القرآن أخي المسلم، إن كان سلوكك وقيمك كامنا في عدم استخدام الفكر في الخير ومناصرته؟ إذن؛ هي لخدمة العكس دون أن تكون قاصدا؛ وبالتالي تكون النتيجة طمسَ الحقائق وتضليلها، وتضييع مسار العدالة عن مسارها.

استمعتُ مرَّة لأحد برامج تفسير القرآن الكريم؛ حيث تكلم أحد المفسرين عن أن أولئك الذين يصمتون وهم يرون الظلم أمامهم ولا ينكرونه، أنهم أيضا ظالمون، هل يعرف ذلك كثير من الناس، أم أنهم يعتقدون أن سكوتهم هو من باب تُقية يحمون بها أنفسهم من أية أضرار، ويمضي إيمان البعض تقية خلف تقية، ويضيع البيان الذي خص الله به في هذه السورة عباده المؤمنين دون غيرهم من الملائكة.

حين تغيب كل هذه القيم، تغيب معها أمانة نقل البيان، الذي تعلمه الإنسان، فيخضع لماهية الإنسان، ومقدار ما تسول له نفسه، ويكمل عليها الشيطان، ليترك الإنسان بذلك إنسانيته تتقاذفها السلبية ما بين سكوت عن مظالم، ومعونة فيها، وتكتيم عليها، ومن بيده قلم خط به تشويه لها لتنقلب الآية حينها على أصحابها لتكون البينة قد طمست.

المسؤولية عظيمة ولن يقلل من شأنها تجاهل البشر لها، أو قسوة قلوب البشر التي لو ظهرت على جبل شامخ لهدمته، إلا أن قسوة القلب البشري رغم أنه موطن قمة الشعور والحس البشري، يحمل ذاك التناقض لنعيش معه الصراع بين الحق والباطل الذي يضيع معه البيان، إلا أن المسؤولية لا تزال متعلقة بأصحابها ممن بيدهم القلم ويحملون المسؤولية ليبلِّغوها البشرية.

إلا أنه من حِكمة ربِّ الكون أن البينة لابد لها من ظهور، حتى لو عمد الإنسان المخول من الله في الأرض لطمسها، فستظل تدور في فلك الحياة حتى ولو بعد حين، يظهر لها من هيَّأه الله لإظهارها.

هذه البينة تتجلى في كل مواقف حياتنا: في العمل، في علاقاتنا فيه، ومسيرة الموظفين والمواقف التي يتعرضون لها من تقديم أحد على الآخر أو ترقية أحدهم مكان آخر أكثر استحقاقا، أو عدم النظر في مظالم موظفين لأشياء عدة يتعرض لها. وتظهر في البيوت بين الآباء وأبنائهم ، أو بين الأخوة أو الأهل والأقارب، أو بين الجيران، أو في الشارع بين المارة في سياراتهم أو بين الأشخاص ومن ينجزون معاملات في القطاعات الخدمية المختلفة، أو في أي حركة وسكنة من الحياة في موقف يتعرض له شخص ما في أي مكان.

البينة توجد في كل تلك المواقف، وتظل ثابتة لا تتغير، ولن يتمكن أي شخص مهما ظن أن لديه من الصلاحيات والقوة أن يطمسها، ومهما وضع عليها من غشاء، له أمد ويُزال، ولا يفرح أولئك الطامسون لها كثيرا، فوعد الله حق، وما يضيع الحق وهو بيده، وستشهد حواس الإنسان عليه يوم يظهر كتاب لكل إنسان، من كان قد كتب ومن لم يكتب، حينها يتساوى الأشخاص ويظهر ما كان قد خفي ولم يظهر في الأولى.