علي بن مسعود المعشني
المتأمل الوطني الغيور لخارطة أطوار ومراحل دولة الاستقلال العربي منذ عهود الاستقلال الأولى في الأربعينيات من القرن الماضي لابد أن تستوقفه جملة من المفاصل والأحداث التاريخية في عمر دولة الاستقلال، والتي تسببت في تراجع الدولة وجمودها رغم كل مظاهر العصرنة الظاهرية والسعي للمساك بأسبابها من تعليم عصري، وعناصر وأدوات تنمية وعصرنة وتقليد ومحاكاة لنماذج عالمية نعتقد بتطورها وضرورة السعي للحاق بها واقتفاء أثرها في أسباب التطور ونتائجه. ولم يتوقف الأمر عند هذا بل تطاول إلى سعي بعض الوطنيين الغيورين إلى تغيير نُظم الحكم بوسائل عنفية أو شبيهة بذلك بقصد إحداث التغيير الإيجابي لأوطانهم والنهوض الحيوي والسريع بها، تحت مسميات وشعارات الإنقاذ والإصلاح والتغيير.
الحقيقة الدامغة بالنسبة لي لا يمكنني فصل أي من تلك الحراكات ورموزها وبرامجها عن سياق العمل الوطني، بغض النظر عن الشعارات والأدوات والنتائج على الأرض لاحقًا، فالزمن يخبرنا بأننا كنا بحاجة إلى شيء أو كل من هذا الاجتهاد أو ذاك في زمن ما وبأن وجودها كان ضرورة لإحداث فعل ما أو نتائج ما في زمن آخر يليه وهكذا.
السؤال اليوم لماذا كل هذا الكم النوعي من التخلف رغم وجود كل عناصر وأدوات القوة والتقدم بيننا!؟ فمقومات الوطن العربي للنهوض من مثالية الموقع والثروات الطبيعية والبشرية والثوابت من لغة ودين وتآخ والتاريخ والمصير المشترك كلها أصبحت كالنشيد الوطني المقدس والذي يحفظه ويتغنى به حتى الجنين العربي في بطن أمه، وما إن يرى هذا الجنين النور حتى يصطدم بكل نقيض على الأرض لهدم تلكم المسلمات والجامعات بين مكونات الأمة والعمل على ازدراءها والتجاسر عليها ونحت هويات وشعارات فرعية بالية تعمق جراح الأمّة وتُكرِّس شتاتها وتخلفها وتفقدها مناعتها ليقضمها الأعداء بكل يسر وفي كل حين.
لا يمكن لعاقل على وجه الأرض أن يكره أو يعادي سُبل القوة والعزة ة الكرامة والوحدة والتطور وهو بكامل وعيه وبخالص إرادته. من هنا فعلينا أن نبحث عن العقلية الخفية التي جعلتنا كعرب معاصرين نعادي وحدتنا وثوابتنا وهوياتنا الجامعة ونشيح بوجوهنا عن تاريخنا وجغرافيتنا الواحدة ونتجاهل مصيرنا المشترك رغم تغنينا بهويات فرعية وصناعتنا المخزية لتواريخ وجغرافيات مزيفة وتكريسنا وعبادتنا للدولة القُطرية التي زرعها العدو المستعمر لينفرد بنا ويجعل من كل قُطر دولة وظيفية له بكل المقاييس ترهيبًا وترغيبًا.
لكل مشكلة أسباب جذرية عميقة وتداعيات وأعراض جانبية، ونحن كعرب معاصرين تعاملنا دائمًا مع الأعراض الجانبية ولم نٌدرك لب المشكلة وجذورها فبقيت المشكلة وتعاظمت إلى مشاكل فرعية وعمل العدو على إلهائنا بها لشغلنا بها وحرفنا عن جوهر المشكلة وجوهر الحل كذلك.
لا يمكن لعاقل عربي واحد اليوم وبعد كل هذه العقود والحقب من تجربة دولة الاستقلال العربي ومراحلها وأطوارها أن يُقنع أحدًا أو حتى نفسه بأنّ كل من حكموا في الوطن العربي كانوا خونة وعملاء أو غير وطنيين أو أسوياء، ولكن يمكننا القول بأنّهم اجتهدوا فأخطأوا واجتهدوا فأصابوا بالنسبة والتناسب، فحين نستعرض أي تجربة حكم في الوطن العربي بعقلانية وبصيرة وحيادية وتجرد سنجد الواقع يحدثنا بذلك، وسنعلم بأنّ هناك فجوة كبيرة وعراقيل ومعوقات موضوعية وحقيقية داخلية وخارجية تواجه كل مشروع حكم عربي ينشد التطور الحقيقي لبلده أو يحمل مشروع نهضوي لأمته، ولنا في مصر الناصرية والعراق وسوريا وجزائر أبو مدين وليبيا القذافي نماذج قُطرية ومشروعات أمة تمّ الاجهاز عليها من قبل الأشقاء قبل الأعداء وعلى قاعدة أقتلوا الشرف كي يبقى العار ويستمر.
لا ينكر عاقل واحد وجود كيانات عربية وظيفية أقامها المستعمر لخدمة مشروعاته وأهدافه وعلى رأسها منع قيام أي وحدة عربية أو تضامن عربي أو مشروع عربي أو حتى تكامل عربي على مبدأ المصالح العارية المجردة من أي ثوابت، وهي نُظم أصبحت معلومة ومكشوفة اليوم وجلية كقرص الشمس بعد عقود من التستر والتورية والتضليل، كما لا يمكن إنكار أثر مخطط سايكس/بيكو على الوطن العربي والذي لم يمزق الوطن العربي إلى كيانات مجهرية صغيرة فحسب بل أثقل عليها بنموذج الدولة القُطرية وهي ثقافة غربية مستوردة ودخيلة على الأمة التي عاشت ثقافة الخلافات والإمبراطوريات والدول الكبرى عبر تاريخها الطويل، فبوجدود الدولة القُطرية سهل على الغرب التفرد بالأقطار العربية وزرع الشتات والهويات الفرعية السالخة عن الثوابت والهويات الكبرى الجامعة للأمة، وتحقق له الدولة الوظيفية ترهيبًا وترغيبًا سبيلًا للبقاء وخوفًا من الاندثار .
زرع لنا الغرب سمومًا بطعم الأفيون والعسل معًا حين قضى على التعليم العربي الرصين والمتمثل في الكتاتيب والزوايا وما يحمله من قيم وثوابت وصون موروث وأستبدله ببدعة التعليم العصري/التخصصي والذي أنتج أجيالًا معرفية بلا وعي ولا ثوابت، واستبدلت قدسية التعليم بحاجة سوق العمل، أي أصبح التعليم لأجل الكسب ولم يعد رسالة علم وعمل وحياة. وأدخل علينا قيمه وثقافته بصور ديكورية هشة كالديمقراطية والحياة البرلمانية والتجربة الحزبية تلك التجارب التي استنزفت الأمة ماليًا وسياسيًا واجتماعيًا ومزقتها الى شيع وأحزاب وطوائف فكرية ومحاصصات بغيضة وأكثرت من الجدل وقلة العمل، دون أن يتساءل أحد عماذا قدمت هذه التجارب المستوردة للأمة طيلة قرن من الزمان!؟ ولماذا يحرص الغرب على تشجيعها وبقائها في الوطن العربي ما لم تكن ضارة بنا وأقنية فاعلة للغرب لتحقيق التبعية والسيطرة بقوى ناعمة تبدو في مظاهرها وطنية الرغبة والإنتاج!؟
أتقن الغرب وتفنن في حصار عقولنا وتسويق بضائعه الكاسدة بلحون تطربنا وتدغدغ مشاعرنا ولكنها أسلحة فاسدة مصوبة نحو عقولنا فقط، حيث سوّق لنا العداء بين الشعوب والحكام رغم مباركته وتعامله وحرصه على الحكام والحكومات العربية وحرصه في المقابل على قتل كل فكر تحرري يتنبه إلى أغلال الغرب وشراكه الفكرية في عقول أبناء الوطن، واليوم ينجح الغرب في توجيه عداء الحكام العرب إلى معاداة طوق نجاة الأمة وكشف مكائد الغرب والسبيل الأوحد لتحرير الأمة من التبعية والاستعمار الجديد وهو تيار المقاومة، هذا التيار الذي خرج كالخير من باطن الشر وولد من رحم المعاناة والهزائم والإخفاقات الكبرى للنظام العربي الرسمي وأصبح دولة وحكومات وجيوش وإعلام ظل ومتناغم مع النظام الرسمي العربي ومتفهمًا لكل الظروف الموضوعية التي مورست عليه وضده من قبل الغرب، حيث يسعى الغرب إلى تحقيق المواجهة بين النظام الرسمي العربي وتيار المقاومة المتنامي ليعيد خلط الأوراق وليتموضع مجددًا في قلب الأمة وحواسها، لاستشعاره بدنو أجله واكتشاف حقيقته من قبل تيار مخلص وغيور في الأمة وقارئ حذق للتاريخ ومسار الأحداث، ومتسلح بالعلم والوعي وبأمجاد أمة لا تنكسر ولا تموت.
قبل اللقاء: " الجاهل ليس من لا يعلم، بل من يعلم ولا يعمل بما يعلم"
(د. إبراهيم البليهي)
وبالشكر تدوم النعم