قراءات في الخطاب السامي (9)

الفلسفة السياسية

 

 

سلطان بن خميس الخروصي

 

تشكل الفلسفة السياسية منطلقا بيّنا نحو رسم معالم ومسارات الدولة الحديثة من حيث تحقيق مبادئ العدالة ونصرة الحق والذَّود عن حياض الأمة، فأينما اكتملت الصورة حول حيثيات الخارطة السياسية داخليا وخارجيا تكوّنت مملكة من الإنجاز على مختلف القطاعات، ومن يغور في أعماق الحضارات السامية منذ بزوغ التاريخ سواء في شبه الجزيرة العربية أو بلاد الشام أو حضارات بلاد الرافدين أو الشرق الأقصى والأدنى يلحظ ثمة مسارات خالدة سلكتها تلك الأمم لأنها وباختصار شديد كانت تمتلك فلسفة سياسية ساعدتها على تحقيق التكامل السلمي والعدالة الاجتماعية والانتعاش الاقتصادي والثراء الثقافي والفني والمعماري.

وفي عُمان المجد والحضارة وبعدما كان هذا القطر العربي الأصيل يعيش ردحا من الزمن تحت وطأة العزلة والانقسام، وحينما تقلّد جلالة السلطان– أعزّه الله – مقاليد الحكم وفي أوج الترهّل السياسي وغياب العدالة الاجتماعية وانكسار الاقتصاد وزعزعة الوحدة وبروز مفاتن الشقاق والنفاق التي أعلنتها الشيوعية في الجنوب مُرغمين أهلها الكرام على ذلك، انبرى الخطاب السامي ليضع النقاط على الحروف ويبين مسارات الفلسفة السياسية الفارقة والتي على ضوئها ستبنى عمان الجديدة المستنيرة بكتاب الله وسنة نبيه وعدالة الإنسانية وكرامة العيش والخروج من عمق الزجاجة والتأسِّي بالحضارات والأمم العظيمة والعودة إلى أمجاد مجان وجبل النحاس وبونت ومزون وسفن الناس التي سميت بها أرضها الطاهرة العامرة، فجاء في خطاب جلالته بالعيد الوطني الثالث 1973: "أيها المواطنون الكرام: تهب على منطقتنا رياح غريبة ومفاهيم عجيبة دخيلة علينا، جعلت ممن ينادون بها شِيَعاً وأحزابا، باعدت بين الأخ وأخيه، وفرّقت بين الوالد والولد، وشتّت شمل الأُسر، تلك المفاهيم الدخيلة روَّج لها أناس ألبسوا الحق ثوب الباطل، وتحت الشعارات المضللة التي لا تنطلي إلا على البسطاء وذوي العقول الصغيرة، ارتكبوا أبشع الجرائم، وعاثوا في الأرض فسادًا، لقد باعوا أنفسهم للشيطان، وخدعهم بريق الأوهام، وهم يسيرون في طريق محفوف بالشقاء، يقودهم في النهاية إلى الهاوية، إنّ صراع الخير والشر صراع أزلي، وانتصار الخير على الشر نهاية حتمية لذلك الصراع، ونحن نؤمن أنّ حزب الشيطان مدحور وحزب الله غالب منصور، إننا نقف بحزم في مواجهة عمليات التخريب والإلحاد والأفكار الشيوعية؛ حفاظا على شرف كياننا وحرمة مقدساتنا وإصرارا منا على دفع عجلة البناء قدما، والقضاء على كل العراقيل والتحديات، وكل ما نرجوه خير هذا الوطن وسعادة أبنائه، فنحن إذن بدأنا عهدنا بقلوب مفتوحة، بعد أن قاسينا مشاكل الماضي؛ لأننا نريد تعويض ما فات، ولأنّ طريقنا شاق طويل وبحاجة إلى كل الجهود" فتجلت معالم الفلسفة السياسية داخليا في رفض كل ما من شأنه خراب البلاد والعباد، وتلويث الفكر والصدور، واستيراد حثالة الولاء والانتماء، والضرب بيد من حديد لكل من يبيع وطنه وأمته بثمن بخس، والعض بالنواجذ على مجد الحضارة والتاريخ المشرق، والعزم والحزم في دحر الضلال والفئوية وتقسيم البلاد إلى (كنونات) هُلامية، والوقوف في وجه من لا يخشون الله ودينه ورسالته، والفداء في سبيل الكرامة والعزة وقُدسية الوطن، والطموح لبناء المستقبل الزاخر بعد عناء الماضي، وتحقيق الهدف الأسمى في رضى أبناء الوطن وتحقيق التنمية.

كما تجلت الفلسفة السياسية خارجيا في الفخر بالإنجاز العماني تجاه قضاياه القومية والإسلامية مع التأكيد على القاعدة الأساسية بعدم التدخل في الشؤون الخارجية مع وحدة المصير العربي والإسلامي، فجاء في خطابه السامي بالعيد الوطني الرابع 1974: "لقد شارك شعبنا بقدر استطاعته في معركة الأمة العربية مع أشقائه في الوطن العربي الكبير ضد العدو الصهيوني، وكان ذلك بدافع الإيمان بأننا جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، نعتز بالانتماء إليها، ونفخر بالمشاركة في معاركها، والإسهام في حل قضاياها ومشاكلها، تقديرا لأهمية إجماعها على عمل ورأي وكلمة، وقد تجلى ذلك واضحا في العاشر من رمضان (6/اكتوبر عام 1973) يوم أن كسرت قواتنا العربية المسلحة طوق الغرور والصلف الصهيوني وقد تحقق لنا العبور، والنصر على الأعداء لقد انتقلت المشاركة من مرحلة الشعارات إلى مرحلة العمل الإيجابي وتجسدت الوحدة العربية، فخيبت آمال المشككين وتحقق النصر- إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم - صدق الله العظيم"، وهذا يدحض الأقوال والآراء التي تحاول بين الفينة والأخرى تقزيم الموقف العماني من قضاياه العربية واتهامه بالتجرد والسكوت، فحينما وُجِدت إرادة سياسية عربية حقيقية وخارطة طريق تحررية متكاملة كان المناضل العماني بالمال والدم موجود على الجبهات، لكن وما إن اختلطت الأمور وأصبحت الفلسفة السياسية العربية خاوية ومؤشر البوصلة لديها متذبذب انتهجت عمان فلسفتها الواضحة بالنَّأي عن المُهاترات والاقتتال والإصغاء إلى صوت العقل والحكمة والقانون وحفظ حياة الإنسان.

إن ما يشهده هذا البلد من رخاءٍ ومحبةٍ ووئامٍ ما هو إلا نموذج حضاري نُفاخر به؛ إذ بُنيَت هذه الانجازات والشواهد بسواعد أبناء عُمان المُخلصين الذين يُذعنون الولاء لله ثم للوطن ثم للسلطان دون أن تأخُذهم رياح الغدرِ والتخوين والاستحقار، فهذه الأرض الطيبة لا تملك تُربة خبيثة لتُزرَع فيها بذور الشِقاقِ والنفاقِ ومساوئ الأخلاقِ، ولا تملك قلوباً مُوغِلةٌ بالحقدِ والدسائسِ تتربَّص للنَّيل من ولي عهدها أو أبناء جِلدتها لاختلافات هزيلة واهِنة، كما أنها لا تأوي أشباه الرجال السياسيين الذين يُحكِّمُون مصالح الخارج عن مصلحة الوطن، والأهم من ذلك أن لا مكان فيها لتُجَّارِ الدِّينِ الذين يساومون في مزاد الكُفر بفتاوى ما أنزل الله بها من سُلطان تُحلُّ دم المؤمن على أخيه وهوه جُرمٌ مُحرَّم ٌبنص القرآن العظيم وحديث النبي الكريم، فكم تتقاطر الدموع حُباً وشكراً لله حينما تجد أن عُمان الطاهرة من مُسندم الزاهية إلى ظُفار الشامخة تلهثُ بالدُّعاءِ على الدوام بأن يحفظ الله الوالد القائد حضرة صاحب الجلالة – أعزَّهُ الله – وأن يُديم عليه نعمة الشفاءِ والصحةِ، وأن يديمه على أرضِ عُمان الطيَّبة لتتوشَّح سماؤها بنور حكمته التي استلهمها من كتاب الله وسُنة نبيه ومَن سَلف مِن آبائه الكِرام الذين حكموا البلاد فعمروها خيرُ عِمارة.

Sultan.alkharusi@gmail.com