الاتفاق النووي بين عقلانية أوروبا وتهور أمريكا

 

علي المعشني

 

مثّل الاتفاق النووي بين إيران والدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن مضافة عليهم ألمانيا والمعروف اختصارا بـ (1+5) انتصارا لدبلوماسية التفاوض والندية في احترام الكبار لمصالح الدول تحت سقف الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي.

واعتبر الاتفاق المذكور انتصارًا حقيقيًا للأسرة الدولية في تجاوز قضية كأداء بحجم الملف النووي الإيراني وما يمثله من هاجس للغرب وأمريكا على وجه التحديد لتهديد ما يزعمونه بأمن ما تُسمى بإسرائيل.

والاتفاق في حقيقته هو براءة إيران من المشروع النووي بشقه العسكري وإقرار لحقها بالتكنولوجيا النووية السلمية والتي قطعت فيه أشواطًا معتبرة، ومصداقًا لادعاء إيران بتحريم مراجعها الدينية الكبرى لامتلاك السلاح النووي وما في حكمه من أسلحة دمار شامل كونها أسلحة عمياء تفتقر إلى أدنى المعايير الأخلاقية لقواعد الحروب والنزاعات بين البشر. ومثل للغرب وعلى رأسهم أمريكا هدنة زمنية تساعدهم على اتمام استراتيجيتهم لاحتواء إيران أو إسقاط خياراتها السياسية العميقة وعلى رأسها نهج المقاومة ودعم حركات المقاومة وفصائلها.

لا شك أنّ الغرب اتبع استراتيجية إنهاك منظمة تجاه إيران الثورة منذ عام 1979م ولغاية اليوم، واعتمد لتحقيق ذلك على القوة الخشنة والتي تمثلت في الحرب العراقية الإيرانية والتي انتهت استراتيجيًا بانهيار العراق وتعاظم إيران، وبالقوة الناعمة والتي تمثلت في الحصار الاقتصادي الشامل منذ عام انتصار الثورة ولغاية اليوم، وما بينهما قوى مزدوجة الملامح والتأثير من تفجيرات واستفزازات وحملات اغتيال لرموز وقادة وعلماء.

ما لم يفهمه الغرب وعلى رأسهم أمريكا والكيان الصهيوني ولم يستوعبه بعد أنّ إيران دولة عصية جدًا اليوم عليهم، وأنهم ما لم يتمكنوا من القضاء عليها في نشوئها وتشكلها فلن يتمكنوا من ذلك على الإطلاق تحت أي ظرف أو مسمى اليوم لهذا فلازالت أمريكا والكيان الصهيوني يفكرون ويخططون بأثر رجعي وبنرجسية عارية من أي عقل أو منطق في التعامل مع إيران بينما يبدو إنّ الجانب الأوروبي استخلص شيئا من العبر والنتائج من سجال مواجهتهم الطويل مع إيران.

إيران اليوم دولة وثورة، فالدولة تتحرك في الجغرافيا والثورة تتحرك في التاريخ ومن أراد مواجهة إيران فعليه إدراك حراك الدولة والثورة معًا، وعليه قبل كل ذلك أن يستوعب بأن لإيران اليوم سياسات وثقافات وأنّ لها حلفاء أقوياء في السياسات وحلفاء في الثقافات وحلفاء آخرين في الحالتين إلى حد التطابق.

قرار ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران ومن طرف واحد يجعل من أمريكا دولة مارقة على الأعراف والمواثيق الدولية ويجعل من إيران دولة ملتزمة بالمواثيق والعهود الدولية، كما يجعل من أمريكا دولة مهددة للأمن والسلم الدوليين وإيران دولة حريصة عليهما. حيث لا يمكن لاتفاقية أقرّها مجلس الأمن الدولي أن يفضها طرف ما بدون مسوغ قانوني لذلك، خاصة وإنّ هذا التنصّل قد تترتب عليه أعمالًا ومواقف وسلوكيات عنفية لا يعلم مداها وآثارها الا الله.

الأوروبيون ورغم تحالفهم الاستراتيجي ومصالحهم العضوية مع أمريكا إلا أنّهم أعلنوا تمسكهم بالاتفاقية رغم تحفظهم ومخاوفهم وكما يزعمون إلا أنّها في المقابل أفضل صيغة قانونية يمكن التمسك بها وتحقيقها في الظرف الزمني الحالي، وهذا يحسب لهم، وإن كانت المؤشرات والتكهنات تذهب إلى تفسير موقفهم بالتناوب المسرحي السياسي مع أمريكا لتحقيق نتيجة بعينها يلتقيان عليها في النهاية عبر كسب بعض التنازلات الجانبية أو الضمانات والتطمينات من إيران بفعل تدفق المصالح بينهما وبالرهان على عامل الزمن.

الموقف الأوروبي رغم عقلانيته الظاهرة وواقعيته المعلنة لا زال موقفا ورقيا غير مترجم على الواقع، وكأنّه مجرد بالون اختبار لإيران وترضية لأمريكا، فالواقع يحدثنا بأنّه لا خلاف حقيقي بين مكونات الغرب الاستعماري حين يتعلق الأمر بالوطن العربي أو بالسياسات الإقليمية أو أمن ما تسمى بإسرائيل وكل ما في الأمر لا يتعدى تبادل أدوار على مسرح الأحداث لا أكثر ولا أقل.

الحقيقة أنّ اختزال الغرب لإيران في الملف النووي لهو خطأ فادح وخطير، على السلم الإقليمي والدولي، كما أنّ الحلم بتدمير إيران وتصويرها وكأنّها قافلة تائهة في الصحراء أو سفينة تتهادى في محيط لهو حساب مستنكر وغير واقعي، كما أنّ رهان الغرب على تشظي إيران من الداخل نتيجة الحصار أو الثورات الناعمة هو رهان خاسر وبرهن بواره منذ زمن بعيد. يبقى الخيار الوحيد للغرب وتهور ورعونة واشنطن على وجه التحديد هو قراءة إيران بعين العقل وبلغة اليوم ومنطق قواعد المصالح والاشتباك ونتائجهما على الأرض اليوم حيث لا مجال للإملاءات والتبعية والغرور السياسي والنرجسية الحضارية مع الجميع، فكل يوم يمر على تعطيل الاتفاقية يمنح إيران المزيد من الحيوية والقوة الخارجية والمناعة الداخلية ويرفع من وتيرة ومساحة حلفاء إيران السياسيين والثقافيين تباعًا وهو مالا يدركه الغرب، فالغرب جعل نفسه في كفة العداء للعقل والمنطق وقواعد السياسة والأعراف والمواثيق الدولية.

قبل اللقاء: يقول الحق تبارك وتعالى: "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نٌملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نٌملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذاب مهين". (آل عمران 178)

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com