قصة قصيرة: حكايات ساقطة من جواز سفر


ايهاب القسطاوى


«هكذا بدا المشهد في شارع "أوتوبيني" ، ذلك الشارع الضارب جذوره في عمق القدم ،  ك "بساط  حريرى" يتلحف بطبقات رقيقة من الاسفلت ، بينما  فِي أَحْشَائِهِ البرد كَامِنٌا  ، ومن بين شقوق مساماتة الزرقاء كانت تتطاير روائح اسئلة على مؤعد مع اجوبة ، ومن شقوق نضوبة كانت تتسرب على استحياء من حين لاخر زخات عطر سوداء ممهورة برائحة اقدام العابرين ممزوجة بانفاس احلاما عالقة على معالم الطريق ، وبنهاية الشارع كانت تمتد اذرع بوبات مطار "هنري كواندا الدولي"  منصوبة كشراك مذابح الليل ، كأنها تعلن نهاية درب الآلام ، إيذانا ببدء مراسم حفل الاغتراب في عرضها الإفتتاحي ، حيث بدات جوقة الحنين عزف سيمفونية الحشرجة اللانهائية ، على واقع نوتة الاشتياق ،  ليتخلل المشهد بعبثية طاغية اضواء قاسية عرت الاسفلت من جروحة ، لدرجة جعلتها لا تشعر بتلك العتمة التى تسيطر على خجلات روحة المكسورة ، بل لقد امعنت فى شدة قسوتها لتشعل غابات كثيفة من الحنين بداخله فتصاعدت ألسنة الهبتها الرمادية لتغزوغباب سماء الوطن الساقط من بطاقة هويته الخضراء ، وعلى واقع نبضات قلبة المتلاحقة كانت تستيقظ امواج عاتية من الاوجاع ، نابعة من عمق جرحة الازالى ، حتى بدا المشهد غريبا بعض الشيئ ، فهو ذلك البحار العنيد ، الذى اعتاد منذ سنوات التية القديمة ، على امتطاء صهوة الامواج المتمردة مزهوا باشرعته البيضاء ، معتادا بمجادفة السمراء المجبولة بشرف المغامرة ، حتى بدا فى هذة اللحظة ككقارب خشبى صغير يترنح من شدة الاعياء ويتارجح فيما بين رحى عمق الضياع ، ويتلقى الطعنات من الامواج الغادرة طعنة تتلو طعنة بعد ان جردته الرياح الغاضبة من اشرعته وفتت عقد مجادفه الموصولة بشرف محاولة بعض البقاء ، لتبدو المسافة التى قطعها حتى مطار "هنري كواندا الدولي" كمشاهد شريط فيلم سينمائى ممل وغارق بالتفاصيل والاحداث قد يكون شاهدها ملايين المرات ، لم يقطع تسلسل مشاهده المتلاحقة بين برهة واخرى ، الا صدى صراخات ابنته " هيفاء" تلك الزهرة اليانعة التى لم تتخطى ربيعها الخامس ، والذى ظلت تنفجر شظاياة فى اذنيه كرعد تمخض فى خريفة بنزيف متدفق من الدموع لتستقر وطنا ابديا فى عيناه المفقودة فى مؤسم الحنين ، كذلك كانت كلمات زوجته التى هاتفته وهوعلى متن سفينتة المحملة بالقمح منذ يومان وهى تخبرة بضرورة الحضور فورا لان ابنتة تحتضر ، تثقل وتعوق حركتة ،اقترب " عبد الله" بخطوات مثقلة تمتطى روح تحتضر ، حاملة اثقال  لاجئ ، حمل على عانقة وطنه وبعضا من احلام اللقاء ، اقترب البحار النبيل والذي كان يبدو كورقة غضة اطاح بها الخريف من غصنها النازف بدماء الفراق ، كان البحار "عبد الله" يرتدى بالطو بيج قصير متسخ وبنطلون جينز قديم وحذاء رث عليه بعض بقايا شحوم ، ويحمل فى يده حقيبة بلاستكية بها قداحة وعلبة دخان مجهولة الهوية وبعض الاوراق الممهورة باختام متعددة كانها تحاكى واقع لاجى ، قد اعتاد على حملها في قبضة يداه وبخطوات بطيئة كمراسم جنازة انتحار نجم من خارج عين السماء كانت ايقاعات خطوات "عبد الله" حتى استقرت قدماة امام نافذة ضابط الجوزات ، نظر اليه الضابط بترقب شديد واعتقد انة لم يعبى بقسمات الحزن التى كانت تفترش وجهة بقدر اهتمامة بملابسة الرثة وبعد جزء ضئيل من لحظات بادره الضابط بنبرات حادة وقاسية قد اعتاد عليها "عبد الله" قائلا لة : " من اين انت اتي ، وما هى وجهتك" ، لكن "علي" على ما يبدو كان مازال غارق فى عمق شروده ، تائة فى دروب تيه مجهوله ، فلم ينتبه لسؤال الضابط الا عند ما كرره مره ثانية ، فتمردت شفتاه عن الانصياع للاجابة ، لان الاجابة كانت تحتاج لسنوات بحجم سنوات الضياع ، فاخفض هامته ومد يداه المرتعشة الى احشاء حقيبتة البلاستكية ليخرج ما باطنها من اوراق ، ووضعها امام الضابط وقال له : "سيدي الضابط انا لاجئ واود ان ارى ابنتى الضائعة بوطني الضائع ووجهتي مدينة قتل الاحلام ومنها سوف اذهب لوطنى برا لان منصات حط العصافير بوطني قد هدمتها غربان الليل ذات صباح" ، فحص الضابط اورقة وجواز سفره ، وفى النهاية مهرها بصك المغادرة ، ليعبر "عبد الله" مع العابرين الممر الضيق المؤدى الى طائرته المتجهه الى "مدينة قتل الاحلام" ، وما ان ادارت الطائرة محركاتها وعلى ضجيجها حتى عاد "علي" الى حالة سباته الاولى عاكفا على متابعة وقائع شريطه السينمائى والغوص فى تفاصيله المتشابكه لكنة لم يلبث حتى افاق مجددا من موتة المؤقت على صوت قائد الطائره المنساب عبر الميكرفون معلنا وصول الطائرة الى مطار مدينة "قتل الاحلام" ، فقد كانت على واقع نداء قائد الطائرة تتزايد وتيرة نبضات قلب "عبد الله" وما من لحظات حتى بدا اصطاف وازدحام الركاب عبر ممرات الطائرة الضيقة ، وقد حملوا اغراضهم وكانت تظهر على وجهوهم بعض ابتسامة امل ، الا انة فى هذة الاثناء  كان "عبد الله" مازال جالساً على مقعده كنة موصود علية حتى هم اخر راكب بالدنو ، فنتبة للتو ان الجميع قد غادروا مقاعدهم وتاركوها فارغة الا من بعض الحكايات ، ولم يتبقى غيرة ، وما من الجديد فى ذلك ، فقد اعتاد دائما على ان يكون اسير وحدته ، وبعد لحظة شرود همّ بالدنو من اعلى مصعد الطائره متوجها الى شباك الجوزات من جديد وكان لديه بعض من بصيص الامل ، حتى وصل الى نفس الشباك الذى اعتاد عليه في كل ميناء ونفس السؤال الذى كان يتلقة من كل شرطى حتى حفظة عن ظهر قلب ، لكن كان الجديد هذا المره هو بعد ان اطلع ضابط الجوزات علي اوراقه قال له بحدة قاطعة : " انت ممنوع من دخول مدينة قتل الاحلام" ، ارتسمت وجة "عبد الله" اثار الفاجعة ، لكنة حاول ان يفيق ويستوعب تفاصيلها ، وبدا يشرح للضابط ماساتة وانه لا يريد سوى تصريح 24 ساعة حتى يصل لوطنة برا لأن طفلتة تحتضر ، لكن الضابط لم يعبئ بحديثة وطلب من احد الجنود المرافقين له بعد ان قام بسحب جواز سفره ، ان يقتدة الى غرفة الاحتجاز حتى تاتي الطائرة التى اقلته لتأخذه مجددا ، وهنا قد استسلم "عبد الله " بعد محاولات مستمية ، ليصعد فى النهاية مع الشرطى الى مقر الاحتجاز حيث كان يقبع يمين الغرفة اثنان من الضباط يجلسون خلف مكاتب معدنىة علية اثار صدا وامام كلا منهم جهاز حسوب بدائى ، ومن حين الى الاخر كانوا يتبادلان الضحكات بصوت صاخب وفى الغرفة الثانية كانت هناك فتاة شابة غائطة فى نوم عميق على فوتية مهترى بكامل ملابسها وقد غطت وجهها بشال اسود وعلى مايبدو من مظهرها انها عراقية ، وكان يفترش ارضية نفس الحجرة شاب سودانى ويتوسد حقيبة سفرة تحت راسة ، بينما كان يمشط الممرات الضيقة بين الحجرات شخص على مايبدو من هيئتة انة تخطى الستون عاما فى حالة قلق وتوتر ، وكان يقف ملاصقا لنافذة الغرفة شخص يبدو من ملاحمة السمراء انة مصرى وكان عاكفا على التدخين بصمت ، وعلى مايبدو انة كان يفكر فى حبيبتة التى كانت تنتظرة ما بين قضبان صالة الوصول ، وفى الغرفة الثالثة كانت تقف امراة يبدو من ملامحها انها من احدى دول شرق اسيا حيث كانت من حين الى اخر عندما يمر اما مها احد من نزلاء الاحتجاز تطلق ندائها : " مية مية" بلغة عربية غير سليمة النطق ، وفى هذة الاثناء كان ينطلق "عبد الله" كطير مذبوح بنصل الاسلاك الشائكة الصدى ليبوح بماساتة امام نزلاء غرفة الاحتجاز ليكتشف فى النهاية ان مائدة الغرفة .. ضيوفها ملامحهم واحدة ، وهنا انفجر "عبد الله" في نوبة غضب وبدأ البكاء والصراخ عالياً مرددًا : "تسقط الأسلاك الشائكة ، تسقط الحدود الزائفة ، تسقط الاسوار الكاذبة ، تسقط قضبان العصافير ، تسقط كل لانظمة ، تسقط القوانين ، تسقط المعارضة ، يسقط حملة المباخر ، تسقط الأيدولوجيات ، تسقط كل الأحزاب ، تسقط متاجر حقوق الإنسان ، تسقط السجون ، تسقط الجدران ، تسقط العتمة ، تسقط كل اجهزة المراقبة ، يسقط المخبرين ، يسقط العالم بأسره .. ويحيا الإنسان"».

 

تعليق عبر الفيس بوك