مرجيحة عمتي

 

زينب الغريبية

في مثل هذا الوقت في زمان مضى، كنا نعود إلى القرية من أقصى الجنوب في السلطنة إلى الشمال منها، ليبدأ الصيف الحار، كان الجميع في القرية ينتقلون من منازلهم الحديثة حسب معايير ذاك الوقت، وهي المبنية من الحديد والطابوق ومنها ما يُسقف في الأعلى بالحديد والإسمنت وبعضها بالخشب وبعضها الآخر بالألمنيوم، كانوا ينتقلون إلى بيوت في وسط المزارع والأشجار مبنية من سعف النخيل ومكوناته الأخرى إضافة إلى أنواع من البناء لم أعد أتذكر شكله ولا مكوناته ربما لصغر سني في ذلك الوقت ولكنني لا زلت أذكر شكله.  

رحلة سنوية ينتقلون بها من حياة الحارة الشتوية إلى " قيض" المزارع السفلي حيث يوجد وادٍ يفصل بين الحارة في الأعلى على الطرف اليمين من مدخل القرية، والجانب السفلي الذي تتوزع فيه المزارع من أشجار النخيل والليمون والأمبا والجح وغيرها من الفواكه والخضروات الصيفية.

 

ما أتذكره كثيرًا وأحبه ليس تلك الرحلة الصيفية في حد ذاتها، بقدر ما أتذكر أنّ جميع أهل القرية يجتمعون نساءً ورجالًا، يجمعهم الصيف تحت شجرة ضخمة يحضر فيها كل بيت "قهوته" وهي عبارة عن شيء من منتجات الصيف الغذائية المحلية أو طبخات شعبية تقدم كـ"فوالة" للضيوف. يجتمع الرجال في مكان والنساء في مكان آخر قريب للناظرين، يجمعهم النكات والضحكات وتبادل الأحاديث المسلية.

ما يعلق في ذاكرتي ممزوج بشحنات عاطفية دافئة تستمد حميميتها من إشاع الشمس المتسرب من بين أوراق الأشجار الكبيرة، لتصنع دررًا متلألئة، تنسدل تلك المرجيحة الكبيرة من على غصنين ضخمين من الشجرة التي تجتمع نساء الحارة تحتها، تلك المرجيحة كانت على هيئة حبل سميك جدا، مجدول من "ليف" النخيل، على هيئة حرف "U

 لم أكن أستطيع الصعود إليها منفردة بسبب صغر حجمي، ولكنني كنت أتوق للصعود إليها، كانت عمتي تحملني وتصعد على تلك المرجيحة وتضعني على حجرها وتبدأ في تحريكها ذهابا وإيابا، وتغني أغنية عذبة، لا تزال تتردد على مسمعي، مطلعها (الناييه النايني.. الناييه وحناييه)، كانت كل الفتيات ممن يتمرجحن فيها يقمن بالغناء أثناء تحريك المرجيحة، كثير ما أحب الجلوس والاستماع إلى ما يغردن به وسط أصوات الطبيعة التي تكمل اللوحة الخلابة طربا وتمد النفس بالاسترخاء.

كان الفلج يمر بمياه وفيرة بين تلك المزارع، وكثيرا ما تأخذني عمتي مع أختي الكبرى لتعلمنا كيف نغسل الصحون بشكل جيد بعد استخدامها، قائلة لنا:" لا تتركن في أي صحن شيئا من بقايا الطعام، ولا الصابون أثناء غسيلها، ولا تستعجلن فلابد من تنظيفها بالشكل الصحيح حتى ولو استغرق ذلك منكن وقتا أطول" وكان ماء الفلج يحمل معه الصابون مضيا به إلى مسافات بعيده تظل عيني ترقبه حتى يبتعد. وتتساقط عليه أوراق من الأشجار التي تطل عليه لتكون كالقوارب التي تطفو على مياهه راحلة لمرسى ينتهي عنده جريان الماء.

يكاد لا يُفرّق بين جمعة الناس هناك إلا وقت الغداء والعشاء والنوم، حتى أوقات الغداء والعشاء من الممكن أن يجتمع بعضهم مع البعض، أو أن يمر أحدهم وقت تقديم الوجبة على بيت أحد سكان القرية "ويعزمون عليه" ويشاركهم في الأكل بكل بساطة وأريحية، فهو من الحارة والأهل، وكل غداء في البيت تضع منه المرأة سهما لأمها وسهما لأم الزوج لترسله مع أحد الأبناء لمنازلهن حتى يتذوقن من غداء المنزل.

وسط حياة القرية المفعمة بالألفة والبساطة، كانت عمتي حريصة على ألا تظهرنا على أناس معينين، وعندما نسألها: لماذا يا عمتي لا تريدين ذلك الشخص أن يرانا؟ كانت تقول بأنّ هناك أناسا يملكون السحر ويأخذون الشخص ليغيبوه عن حياة البشر وسط أهله وناسه، ليعيش في عالم يقومون بخدمته هو كساحر متحكم به، كنا نخاف كثيرا وسط مشاعر الفرح والألفة التي نعيش فيها، كانت تقص علينا من تلك القصص المخيفة لأشخاص تمّ سحرهم وغُيِّبوا عن الحياة، لا أعلم إن كانت تلك القصص حقيقية أم أنّها أساطير تعيش مع سكان القرى. إلا أنّها ما زالت من ضمن الذكريات الجميلة التي عشتها يوم ما.

عدت الأسبوع الماضي لتلك القرية التي تمنحي كل تلك الذكريات، ولكنّي عدت إليها هذه المرة لأشهد رحيل عمتي، مشهد طوى معه كل تلك الذكريات الحميمة، أغلقت تلك العينان الشهلاوتين، ليصبح رحيلها نقطة النهاية في حكاية ذكرياتي تلك، حملت معها أغنية المرجيحة في زمن جميل يحمل البراءة والجمال، وداعا يا عمتي.. وداعا يا قطعة من قلبي.. ولكن الجزء الذي امتلأ من ذاكرتي بكل مقاطع الحياة التي جمعتني بك باقٍ ما بقِيت.