خلفان الطوقي
أجزم أنّي لست أول من كتب مقالة عن ضرورة إنشاء مركز عماني معني بالدراسات الاستراتيجية؛ ولن أكون الأخير، من كتب ونادى من قبل ومن بعد بأهميّة إنشاء مثل هذه المراكز يراها حاجة ملحة ومطلبا ضروريا لأننا أكملنا ثمانية وأربعين عامًا من عمر النهضة، ومن المعيب ألا يكون هناك مركز مركزي يعتبر مرجعًا لكافة الجهات الحكومية يستأنس بآراء الخبراء والمحللين الاستراتيجيين.
هناك أسباب عديدة تستوجب إنشاء هذا المركز في هذا التوقيت بالذات، وبعض هذه الأسباب: أنّ معظم البلدان المتطورة وجميع البلدان المحيطة بنا توجد بها مراكز للدراسات الاستراتيجية، ولا أرى مبررًا يمنع السلطنة أن يكون لديها هكذا مركز، أضف إلى ذلك أنّ عمان أكملت ٤٨ عامًا من نهضتها الحديثة في بناء البنية التحتية الأساسية، ومثل هذا المركز سيجعل التنمية مستدامة ومبنية على أسس علمية وحقائق وإحصائيات تدعم متخذي القرار لاستشراف المستقبل بعيدا عن الضبابية، وتجعل لديه خيارات وبدائل وحلول وفرضيات متنوعة ونظرة شمولية طويلة المدى تجعله ينظر من زوايا مختلفة.
لا تقف فوائد مثل هذه المراكز عند هذا الحد فقط، بل تعطي الحكومة ميزة إضافية وهو سهولة وسرعة وسلاسة التحرك الميداني للتعامل مع المتغيرات فائقة السرعة والسيناريوهات المفاجئة خاصة أننا نعيش في عالم متغير ديناميكي لا يستطع التاقلم معه إلا الأقوياء والمميزين وأصحاب الأرقام القياسية الأولمبية الواعين بلغة العصر والثورات التكنولوجية، وأهم من هذه الفوائد هناك فائدة عظيمة وهو أنها تسد الفجوات والثغرات بين الحكومة والمواطن من خلال رؤية علمية صادرة من مؤسسة علمية مدعومة بالدراسات والأرقام والحقائق بعيدا عن لغة العاطفة أو التفرد في الرأي أو المزاجية.
علينا ألا نغفل أنّ عمان محاطة بتحديات داخلية وخارجية وتظهر على السطح بين حين وآخر، ومن الحقائق الثابتة أنّه كلما تطور المجتمع، فإنّ تحدياته تكون أكثر تعقيدا وتشابكا شئنا أم أبينا، وعمان جزء من هذا التطور المتسارع، عليه فإنّ مثل هذه المراكز الاستراتيجة يمكنها أن تقلل العشوائية في القرار والتخبط في ردات الفعل السريعة، وتجعل القرار الحكومي أكثر رزانة وحكمة، ولنا خيار وجوده في الرخاء لتتضح لنا أهميته وجدواه عند الشدائد.
وأخيرًا، ومع وجود مراكز دراسات مبعثرة في عشرات الجهات الحكومية حالياً وتخدم جهات بعينها لا أراه كافيا، ويبقى مقترحي ببساطة هو ضرورة إنشاء مركز وطني للدراسات الاستراتيجية على أن يكون مستقلا يحمل صفة المرجعية، وهدفه دعم ومساندة القرار الحكومي من خلال انتداب الكفاءات الوطنية من الجامعات العمانية ومعهد الإدارة العامة وكلية الدفاع المدني وكافة المبادرات الوطنية مثل برنامج المديرين التنفيذيين التابع لديوان البلاط السلطاني وباقي الجهات الأمنية والبحثية كالمجلس الأعلى للتخطيط ومجلس البحث العلمي وغيرها، بهكذا تعاون وتكامل وتنسيق يمكن لعمان أن ترتقي بمركزها التنافسي في كل المجالات على مستوى العالم وتضمن نموًا اقتصاديا بشكل سنوي، وتكون جزءا من العالم الحديث والمتطور المبني على اقتصاد المعرفة الذي يضمن حياة قليلة المنغصات من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهنا علينا أن نختار؛ فإما أن نكون جزءا من دولة المؤسسات المدعومة بالأرقام والحقائق والبحث العلمي كما أرادها مولانا السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- باني النهضة الحديثة، أو دولة الاجتهادات الشخصية وردات الفعل والانفعالات العاطفية، علما بأنّ عدم إنشاء هذا المركز الآن أو التأخر في إنشائه يفقدنا مزايا إضافية لا تحتمل التأخير، وتجعل بلدنا خارج المنافسة الدولية، بلدًا يركز في الأمور السطحية وحل مشاكله يوما بيوم، كما تجعلنا بعدين كل البعد عن النظرة المستقبلية الشمولية العميقة ذات الأبعاد الاستراتيجية، فقوة اليوم ليست مبنية دائما على الأسلحة المملوكة، بقدر امتلاك المعلومات المبنية على أسس علمية وقوى بشرية تسخر وتطوع هذه الدراسات الاستراتيجية لصالحها ولصالح شعبها.