مدرين المكتوميّة
أذكر أنني كنت وحدي لا رفيق سوى صوت الباب المُتهالك والمروحة التي تحولت من البياض لسواد، وصوت "الشرص" - صرصور الليل- وهو يصدر أصواتا تتضخم مع الليل فيبدو المكان مهجورًا.
هناك في ذلك المنزل القديم ترقد الذكريات، يرقد معها صوت لازلت اسمعه وحدي دون غيري، إنّه صوت روح جدي النائمة التي تزلزل أذني كلما مررت من تلك الزاوية وبالذات في تلك الغرفة، رفوف أكلتها الأتربة وكتب تحولت لكومة من الغبار، في الجانب الآخر مازال مصحفه الكبير مفتوحا، فأرى جدي كما تعودت يجلس خلفه كل مساء ليقرأ بوضوح ما تيسر له من كتاب الله.
صوت لا يسمعه غيري، صوت أكاد أجزم أنّه يبعث الحياة في تلك الغرفة الأشبه بتابوت متهالك، ظلت لزمن مغلقة لم يتجرأ أحد على الاقتراب منها، لكني لم استطع مقاومة صوت جدي، وشعرت باحتياج نفسي للمرور على غرفته، ربما اشتقت لتلك الروح الطيبة التي لازلت أشعر بها حولي، لازالت تنفض عنّي الألم وتخبرني بأنّ مساحات الفرح الخضراء مازالت تنتظرني، هناك الربيع القادم الذي لن يخذلني بقدومه، هناك وجوه تشبه ملامح وجهه وصوت يرن كما عهدته، كل شيء نجده عندما نفك شفرات المكان والزمان والوقت، حينها تنسل الذكرى كبلسم يداوي تشققات جراح الزمن وما قد يؤرقني من هموم، أعود للوراء قليلا عندما أشعر بأنّ الحاضر يضيّق عليّ الخناق، وأدخل لغرفة جدي فانتقل بالزمن.
تلك الرسومات القديمة والجدار الأخضر الغامق، وبقايا أعواد السواك والسراج الذي ينير العتمة، كلها أشياء تثير بداخلي الرغبة للعودة قليلا للوراء. كم تمنيت لو طال بي الزمن معك يا جدي، لربما هناك أشياء كثيرة تغيّرت وربما هناك لحظات جميلة أهديك إيّاها، ولربما استطعت أن أقدم لك بعضا من السعادة بتحقيق رغباتك.. لكنّه الموت يا جدي، لا يعطينا الوقت. ولأنّ الموت هو قدر محتوم كان عليّ تجرع مرارة رحيلك دون أن يلحظ أحد ذلك، أذكر صوت تلك البومة المشؤومة التي تلحق من نحب، تصدر أصواتا تخبرنا أن هناك عزيز سنفقده، وأننا سنشيع جثمان أحدهم قريبًا، فنظل نعيش قلق الفقد كلما لمحنا طيفها أو سمعنا صوتها، لا أؤمن كثيرا بهذه الفكرة لكنها كانت تستهويك يا جدي أنت وأبناء جيلك.
أتعلم لماذا الحزن عليك، ولماذا أتذكرك دائما؟ لأنك لو كنت موجودا اليوم لكنت أقوى مما أنا عليه، ولكنت اليوم أخبرك بسر صغير أخفيه عن الجميع، سر يمزقني جدا لكنه ما كان سيبقى سرا لو كنت هنا، لأنني وببساطة لا أقوى على أن أخفي عنك أمرا.. أنت القريب البعيد، الرفيق والصديق، أنت الشخص الذي لن يتكرر أبدا، حتى وإن تعثرت بالكثيرين إلا أنّك ستظل الاستثناء دائما، صحيح أنني أكتب ما أعلم أنّك لن تقرأه ولكن يقال إنّ هناك أناسا ينتمون لعوالم أخرى تشعر بنا، واليوم أشعر بروحك تعود لتقف معي ونتحدث في كل شيء، ولربما روحك تحلق حولي لتعلم كم أحبك وكم أشتاق إليك وكم يمزقني الحنين إليك.
غرفتك وتلك الزاوية وذلك الباب وهاتان النافذتان حملتني إليك ونحو التواصل معك، كل شيء كما هو سوى شيء واحد.. أنّك لم تعد هنا، ولم يعد المكان مزدحما بالزوار وبالراغبين في الحديث معك، المكان هو نفسه لكن لم يعد مرتعا للحب ولروح العائلة ولاجتماع أحفادك بعد صلاة العشاء، المكان هو نفسه لكن لم تعد وسادتك هناك ولا حتى قميص الصوف الذي ترتديه ليقيك برد الطقس، لم يعد هناك التمر المطبوخ بالسمن الذي تخبئه لي، حتى شجرة النخيل التي كنت تسقيها ماتت أيضًا ولم تعد مكانًا لخلايا النحل كما اعتدت عليها.
إنّه الموت يا ساكن الأرض، الموت الذي يقلب كل شيء دون حسبان، ويجعل من حياة الحاضر مأساة نكمل عليها ما تبقى من العمر لنظل نذكر ما مضى لو بعد حين، لا يمكن لمن ارتبطت أسعد لحظاته بالماضي أن يتناسى لحظاته، ولا يمكن لمن عاش لحظات لا تتكرر أن يتخلى عنها، فكل شيء سيعود بشكل ما؛ بصورة صغيرة نخفيها في محافظنا.. بمكان عدنا له بعد زمن.. ببسمة طفل بريء نرى فيه أرواحنا، وربما - وكما عدت إليّ يا جدي- بكتاب مغطى بالغبار كتب في صفحاتها البيضاء الأولى "سلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا"، كان الخط بتلك اليد والأنامل التي لطالما مسحت على جبيننا ووجوهنا بالماء وهي تقرأ آية الكرسي والمعوذات خوفا من أيّ مكروه قد يصيبنا.
كل ما نملكه اليوم هي تلك الدعوات الصادقة أن يتغمد الله جدي برحمته ويسكنه فسيح جناته، ولكنّه سيظل دائما معي وسيظل يعود جزءًا من حروفي والسند الذي يقف معي في أي وقت أو مكان.
madreen@alroya.info