"القبائل الإدارية".. التحدي الأكبر للمواطنة

د. سيف بن ناصر المعمري

ربما كنت أعتقد – وآخرون- أنَّ القبيلة الطبيعية وتوظيفها بشكل خارج إطارها الاجتماعي يعد خطرًا كبيرًا على المواطنة، ولكنني اكتشفت خلال هذا الأسبوع أنَّ الخطر الأكبر قادم إلينا من نوع آخر من القبائل ينمو ويقوى ويزاد تأثيرا وعنفاً هو "القبيلة الإدارية"، وربما يستغرب البعض من هذه المصطلح، إلا أنه يمثل خير تعبير عن الجماعات التي تدير المؤسسات وتسيطر على مراكز اتخاذ القرار.

هذه "القبيلة" – إن جاز التعبير- تختلف عن القبيلة العادية التي تجمع أفرادها رابطة الدم، والمسكن المشترك في مكان محدد، هذه القبيلة تجمع أفراد المصلحة المشتركة في السيطرة على دائرة اتخاذ القرار، وبالتالي فإنَّ الرابطة التي تجمعهم هي رابطة الولاء ليس للمؤسسة، ولا لأهدافها، ولا لمصلحة المواطنين، ولا أيضاً لمصلحة الوطن، إنما هي مصلحة الولاء لقائد المؤسسة أو ما يمكن أن نسميه "شيخ القبيلة الإدارية"، الذي يعمل على زراعة أتباع قبيلة في مختلف الدوائر والمراكز في منطقة نفوذه "المؤسسة التي يديرها"، وفي نفس الوقت يعمل على إبعاد كل الذين لا يتفقون مع توجهاته، ويرون فيها خطرا كبيرا له تبعات اقتصادية وتنموية واجتماعية، ومن منطلق هذه العصبية القبلية الإدارية، يولد الاستبداد في مؤسساتنا، وتولد معه كثير من الأمراض التي تعيق المؤسسات عن النمو والتطور كما تتطور بقية الأشياء، ونسأل أنفسنا كيف تحولت مؤسساتنا من مؤسسات في دولة إلى قبائل إدارية تعيق تطور الدولة، ومواجهتها للاستحقاقات التي تتطلبها الظروف والتحديات التي تريد إدارات لا قبائل تسيطر على الإدارات؟

إننا إذا نظرنا إلى المؤسسات من حولنا، والمجالس المختلفة واللجان التي تنبثق منها وتتوالد بأعداد كبيرة، نجد أن المعيار الذي يحرك تواجد بعض الأشخاص في هذه المواقع ليس الكفاءة العلمية، ولا الخبرة العملية، ولا الدافعية الوظيفية، ولا السيرة الذاتية أو العلمية، ولا حتى المقابلة التي تجرى هنا وهناك، إنما يحرك الأمر خلق الاتباع الذين يتجمعون حول شيخ القبيلة الإدارية، ويمهدون له المؤسسة كما يرون هم، لا كما يرى هو لأنه لا يرى إلا الولاء حتى وإن كان لن ينتج عملاً. ولذا يوضع أفراد في أماكن اتخاذ القرار ولديهم إمكانات متواضعة، وتتسع الدوائر التي يتواجد فيها هؤلاء، بل إن بعضهم ليس له سمات قيادية ولا خبرة عملية، ولكن لارتباطه باتباع شيخ القبيلة الإدارية يسلم قيادة مركز تنموي حساس في ذهول من جميع الموظفين، الذين يطرحون كل يوم عشرات علامات الاستفهام لماذا يحدث كل هذا. وكل يوم تتلى علينا آيات التحديات؟ لماذا تحولت المؤسسة إلى شكل آخر لا يمت إلى فكرة المؤسساتية بأي شيء؟ لماذا تتحول فكرة متقدمة عرفتها الدول المتطورة من أجل التطوير إلى شكل من العلاقات التقليدية التي تدار بالفزعة التي كان يدير بها الشيخ شؤون قبيلته؟ ألم يدرك متخذو القرار أن هذا النمط الإداري يقود إلى الخلف عشرات الخطوات ولا يقود إلى أي خطوة نحو الأمام؟ لا أعرف إلى أين تقود القبائل الإدارية بعض المؤسسات في هذه اللحظة الفارقة التي نعتقد فيها أن أي مؤسسة تمثل حلقة في سلسلة حتى تظل متينة لابد أن تعمل بإحكام حتى لا تنقطع عن بقية الحلقات، وهذه الحلقات هي الموظفون من داخل المؤسسة، والمواطنون خارج المؤسسة، والسياسات ونواحي التطوير التي يجب أن تكون محور الاهتمام، ويحشد لها كل الطاقات من أجل النجاح لا أن يتم إبعاد الحشد القادر على إنجاحها عن المشهد بحجج واهية، وبأساليب متحايلة، وبطرق ملتوية لا يمكن أن تتم في مؤسسة تحترم قيمها المؤسساتية ومبادئها العملية.

لماذا تحكم القبائل الإدارية القبضة على بعض المؤسسات المسؤولة عن التطوير الآن لا على إبقاء الوضع الراهن كما هو، والطلب من المواطنين أن يتحملوا هذا الواقع؟

أرى أن أهم الأسباب لذلك هو أولاً بقاء بعض متخذي القرار سنوات عدة في أماكنهم مما يسمح لهم بتكوين قبيلة إدارية غير فاعلة من أجل السيطرة على المؤسسة، وبالتالي اصطناع الاتباع في مختلف المواقع ضرورة من أجل إدامة هذا البقاء، فالبعض يمتد بقاؤه إلى عشر سنوات أو أكثر من ذلك، وعندما يرحل يعين مكانه من أتباعه، وهذا الذي يفعله هذا، وبالتالي يستمر أتباع القبيلة يديرون المؤسسة للأهداف التي تجمعهم لا للأهداف التي تسعى لها المؤسسة، فتنقسم المؤسسة على نفسها، ولذا بدون تنفيذ مدة صغيرة للبقاء في أي دائرة اتخاذ القرار، سوف تتضخم هذه القبائل الإدارية، وسنجد أنها كما القبائل الطبيعية تولد فخائذ عدة، وتتحالف فيما بينها من أجل تقوية نفسها، واتباعها وبثهم في كل مكان، وبالتالي تثار العصبيات الإدارية، ويلجأ كل إلى أساليبه وأدواته، والضحية التطوير وحل المشكلات، والضحية هي المواطنة الفاعلة التي تعد المسؤولية والعدالة والمساواة والرقابة والمحاسبة من قيمها الفعلية، وبدلا من أن ينشأ نظام ديمقراطي تدار به المؤسسة لتحقيق أهدافها، ينشأ نظام متعصب لنفسه داخل المؤسسة، ويوظف النظام الديمقراطي لمصالحه، ويمارس الابتزاز ضد أولئك القلقين على المصلحة الوطنية التي يرونها ضحية لكل ما يجري من ممارسات في الحياة الإدارية.

فهل من وقفة مع القبائل الإدارية أم ستترك لها المؤسسات تفعل بها ما تشاء؟ هذا سؤال تنموي عميق، والإجابة هي البوابة التي تمر عبرها الحلول لكل ما نراه من تحديات، لا خيارات كثيرة، إما المؤسسة أو القبيلة الإدارية.