أين حدود العقل؟ تأملات فى الإسراء والمعراج


محمد عبد العظيم العجمي


لكل مخلوق بشرى نصيب من النفحة (الربانية) النورانية الكامنة السارية فى كل ذرة من ذراته، وهى تبدو، أو تخبو، أو تنبو، بقدر ما تكون الصلة موصولة والقرب دان والعهد موثوق والذكر موصول بأصل النفخة وبدء الخلقة، وكلما اتصل الذكر زاد سريان النور فى الأوصال فصار" سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به.. الحديث"، وكلما بعد العهد وطال النأى حطت الحجب وصارت ظلمات بعضها فوق بعض..  
ولذا.. فلكل بشر ما يمن الله به عليه ـ حين يسأل الله مخلصا ـ فيما يشكل على عقله البشري أن يحيط به، وبما يطلق الله بعض العقل من بعض القيد فيلقي فى روعه مالم يكن يعلم وما لم يسطِّره العلم فيما سبق، فمِننُ الله لا تحدُّها حدود ولا تعرف القيود خاصة إذا أراد: أن يقول"كن" فيكون.
وإذا كانت المعجزة هي رسالة تأديب للعقل البشري تقول له "قف أيها العقل عند منتهاك" ليدرك أنه إنما صِيغ من العقال وحُفَّ بالقيود، ولتعلم البشرية أن "ما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، ولتخضع أهل الكفر والعناد خضوعَ قهريةٍ وجبروتية "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين" الشعراء، ليعلموا أن ما يملي لهم فى هذه الحياة إنما هو من فيض الرحمة، ومن (رحمانية) الإمهال إلى أجل هم بالغوه، "لعلهم يتقون أويحدث لهم ذكرا" طه، وهى كذلك آيات بيِّنات لمن كان له قلب أو ألقى السمع فلا يمرُّ عليها كما يمرّ المعرضون الذين "لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا إنما سُكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون" الرعد، فالمعجزة إذا حُجّة على الكافر وآية للمؤمن، ولا يزيغ عنها إلا هالك " أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون" يوسف ، ولنا فى محاولة فهمها من اللطف والرحمة وطلاقة الحكمة ما يعطي لكل بقدر ما يطيق، فإذا كان الطود الأشم قد اندك من بعض التجلي وخرَّ الكليم صعقا ـ وهو الذى صُنِع على عينه ـ " واصطنعتك لنفسي " ، فكيف بالعقول التى لم تهيأ إلا لما هو أقل من ذلك؟!
ولكن: أين حدود العقل؟ إنه لا يستطيع بشر أن يحد حدود هذه المملكة إلا من صنعها، أما البشر، فلا حدود لهم للوقوف عندها إلا ما حدّه الشرع، وما حجب من أستار الغيب، وما عدا ذلك فليسبح العقل فى سبحاته ويرقى فى تجلياته فيفتح له من باب الفضول والسؤال والتمرغ على الأعتاب ما لا يفتح لسواه .
على هامش الأحداث والمقدمات:
إن هذه النفس النورانية (المحمدية) ـ صلى الله عليه وسلم ـ التى تكاد تزهق نفسها حرجا من فرط الحرص وضيق الصدر، شفقة على أمة التبليغ ولهفا على أداء الأمانة، حتى لتكاد يغيب عنها فى خضم الحوادث ما تلاقي من العنت وما تكابده من التعب وتطاول الأقزام واستخفاف الجاهلين، فيقول صلى الله عليه وسلم " لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله " ، ترى أى صناعة إلهية ربانيّة تلك التى تتجلى فى أعماق هذه النفس، وتفيض بها أنوارها، وقد لاقى أقرانه من الأنبياء والرسل قبله  بعضا مما لاقى، فقال نوح عليه السلام " رب لا تذرعلى الأرض من  الكافرين ديارا " نوح، وقال موسى " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " يونس ، وقال إبراهيم " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الأخر " البقرة. وقد ذكر فى خبر قارون أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام " أن مُرِ الأرضَ بما شئت " فأمرها أن تبتلع قارون وكان من قومه، فأخذ يسأله بالرحم فلم يلتفت إليه حتى ابتلعته الأرض، فقال الله له "ما أقساك " وعزتي وجلالي لو استغاث بى لأغثته.
إن الأرض لتضيق عليه صلى الله عليه وسلم  بما رحبت، من تجبر هذه الثلة المتكبرة، التى لا تؤمن ولا تدع لغيرها ممن آمن أن يجأر إلى ربه بما تعتقد أنه الحق، فتحول كذلك بينهم وبين أسباب الإيمان.. وياله من حلم هذا الذى كتبه الله على نفسه رحمة بخلقه، فسمى به نفسه (الحليم)، وأودع منه فى قلب هذا النبي العظيم حتى يصفه " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " ، فيحاصر صلى الله عليه سلم وآله فى الشِّعْب، ويغرى به السفهاء ويبلغ به الجهد مبلغه، ثم لا يكون منه إلا هذه الزفرة القلبية التى تضرع إلى ربها مناجية ـ ليس ضيقا بما يكابد ـ ولكن خشية أن يكون ذلك عقابًا نزل به مما لم يعلم ـ وحاشاه ـ فيقول متضرعا: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أباليّ، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" ، فيالها من ضراعات تكاد تُزلزل لها أبواب السموات وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدّا، أهكذا يكون حال المصلحين المخبتين الذين تركوا حظوظ أنفسهم ـ حتى ـ مما يقيم حياتهم البشرية، فأوشكوا أن يفنوها حرصا على رضا ربهم، وإشفاقا على من هم لا يقدّرون ما هم مقبلون عليه من الوقوف والسؤال والجزاء "وأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تفلتون مني .. الحديث" .
الدعوة إلى الإسراء والملأ الأعلى:  
وهنا يجئ الغوث الربانى الذى لا يتخلى بقيوميته ـ على المعرضين، فكيف بالصفوة والمخلصين، إن الضيق حين يحيط بالنفس البشرية، والتى تكون منوطة برسالة تنوء بحملها السموات والأرض والجبال، فيحطُّ من بعض عزمها وقدرتها لمتابعة المهمة، فهنا يكون ـ لابد ـ لها من تسرية وتسلية وترويح عن نفسها لتستطيع مواصلة العزم والمضى فى الأمر، وتأتى هذه الدعوة الربانية التشريفية، التى يصطف لها الملأ الأعلى ومعهم جميع الأنبياء والمرسلين، فى مشهد لا تقوم له لغة لوصفه، ولا كاتب لنثره، ولا شاعر لنظمه، إذ أن الأمر كله قد فاق حدثا وعلما ومشهدا حد العقل البشرى وما أحاط به علمه.. وهنا يتوقف العقل ـ كما ذكرنا ـ عند حدود الأدب العلمى، ليطفو فى بحار الفتح الربانيّ، ويسبح مع معارج الصعود الملائكيّ، ينطلق من محدودية البشرية إلى آفاق إشراقات الربوبية، متوسلا متضرعا: إن لم يكن له أن يعلم عن هذه الرحلة ما قد حجب عنه من أسرارها، فلا أقل من يهيم فى بحار ملكوتها، ويتقلب في أنهار أنوارها، ويتفلت من ركام الغيم إلى أطياف الغيب، وليس ذلك على الله بعزيز، فإذا كان قد جعل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الإسراء والمعراج بالروح والجسد ما غيَّر به وجه الكون، فإنه ذاته قادر على أن يعلمنا كل حين من آياته فى هذا الحادث المهيب مالم نكن نعلم، ويطلق هذه الأرواح المتشوقة من أغلالها فتنهل من سيل الفيوضات.
موكب الإسراء ومواعظه:
وينطلق الموكب المصطفى (أمين وحي السماء، وسيد أمناء وحي الأرض) من هذه الأرض المباركة بمكة لوجهة هو موليها إلى القبلة الأولى المباركة أيضا ( الذى باركنا حوله ـ الإسراء) ، ليعلمنا أن السلالة النبوية بعضها من بعض وأن الشريعة وإن تعددت فإن النبع واحد، وأن هذه الأرض قد بوركت وشرفت بإخوانه من الرسل والأنبياء قبله، وأنه لم يكن بدعا منهم، وأن ما لا قاه من قومه لم يكن حدثا طارئا، وإنما كان فى الأمم السابقة أشد وأعتى، وأن شرف النبوة والرسالة إن كان قد انتقل من أمة مصطفاة إلى أمة أخرى اصطفيت ، فإن هذا إيذان بفتح جديد على البشرية وعلى الأمة التى حظيت بهذا الشرف العظيم ، وسيمكن لها كما مكن لمن كان قبلها، وستتكلف من عبء التبليغ إلى الإنسانية كافة ـ بصفتها الأمة الخاتمة ـ ما كلف به الأنبياء والرسل قبلها.
إن هذا التشريف لأولى القبلتين وثالث الحرمين لهو دلالة ورسالة قوية تعلمنا أن حملة الرسالات (من الأمم)، لا ينبغى لهم التفريط فيما أنيط بهم من حفظه والقيام بحقه، وإلا تعرضوا أن يذهبهم الله ويأت بقوم آخرين وما ذلك عليه بعزيز .. وإذا كانت الأمة تمر بحال من الضعف والوهن فإن لها فيما جعل الله لنبيه من نصر وعزة عبرة، ما تعود بها إلى عزها واسترداد ما سلب من حقوقها ، إنه حق ليس لها التفريط فيه إذهو ليس من (المال ولا الملك ولا العرض ولا النفس )، إنه من الأمانة التى أوكل إليها حفظها والمنافحة عنها بكل ما سبق، حتى تلقى الله حافظة لها أو مستشهدة فى سبيلها ولا اعتذارلها عند ربها بعذرغير ذلك.  
إن الله تعالى قد حكم  على بني إسرائيل بالتيه فى الأرض أربعين سنة، حين نكصوا على أعقابهم وعصوا رسولهم وجبنوا عن دخول الأرض المقدسة التى كتب الله لهم ، وقد حكم علينا مثلهم ، بتداعى الأمم كتداعى الأكلة على قصعتها بما فرطنا فى هذه الأرض المباركة التى كانت لنا ، ولن يتغيرواقع الحال من الوهن إلى القوة ، ومن التداعى إلى قذف الرعب فى قلوب عدونا ،إلا أن نغير واقعنا باسترداد الأرض المقدسة المستلبة، وإلا .. فالحكم ممتد بامتداد السبب .
موكب الاستقبال:
ثم ليجد صلى الله عليه وسلم على شرف استقباله، ما يوحى برفعة مقامه وجلال إقدامه ، هذه الصفوة المنتقاة، والثلة المصطفاة من الأنبياء والرسل والملائكة، ليشهد الجميع له بشرف الإمامة ودرجة التقديم ، ويقروا كذلك بالعهد والميثاق الذى أخذ عليهم من الله للإيمان بهذا النبى ونصرته، ودعوة أقوامهم إلى ذلك من قبل أن يبعث "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول من عند الله مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" آل عمران.
ويصلى بهم صلى الله عليه وسلم إماما ـ على اختلاف الروايات (هل كانت الصلاة قبل العروج أم بعده ) ـ ، وياله من شرف للإمام والمأمومين، ويالها من بركة تلك التى حلت على المكان والزمان ، وفاض نورها على الأزمان من بعدها .. وفى هذا يقول البوصيرى رحمه الله:
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه               والرسل فى المسجد الأقصى على قدم
لما خطرت به التفوا بسيدهم               كالشهــب بالـبــدر أو كالجــند بالعــلم
صلى وراءك منهم كل ذى خطر         ومــــــن يفــــز بحبيب الله يأتمم
وللحديث بقية إن شاء الله ..

 

تعليق عبر الفيس بوك