القيم الجمالية في "سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت" (2)

عبد الجواد خفاجي - ناقد وروائي مصريّ


إن رؤية المبدع عموماً ليست وليدة فراغ، ولا تُبني بقرارت مسبقة، وليست خاضعة لاعتبارات العشوائية أيضاً . إنها توجه أصيل له موجهاته السيكولوجية التي ترتبط بطبيعة الفرد واستعداداته النفسية وميوله الفطرية، ومنها اجتماعية مثل المحددات العقائدية والمثيولوجية والثقافية. ومنها البيئية التي تربط بين الذات المبدعة والطبيعة والكائنات والإنسان في إطار بيئتي واجتماعي مخصوص.
وفي هذا التأسيس يمكننا أن نحدد المُكوِّن الميثيولوجي والعقائدي الذي يرتكز على وضع الكائنات والأشياء ومن ضمنها الأشجار بطبيعة الحال موضع العابد المسبِّح لله، والمجبول على هذا ، بنصوص القرآن الكريم ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلأَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) ـ الإسراء: 44
وفي هذاالإطار تتحول الأشجار إلى ذوات مجبولة على التسبيح ولها لغتها. كذلك ترتبط الأشجار بالجنة / حلم الإنسان بما فيه من راحة ونعيم وجمال .. تبدو الأشجار كملمح رئيسي ومكون أساسي له ظلاله وثماره وفاكهته ومنها تُصنع الآرائك التي يسترخي عليها أهل الجنة في الظلل.
ترتبط الشجرة في المعتقدات أيضاً بخطيئة آدم، ليس بوصفها سبب الخطئية فإرادة الإنسان هي سبب الخطيئة، ولكن لأنه استخدمها في غير ما أراد الله فاستحق الطرد من الجنة، لتنتهي حياته في الجنة وليعاود حياته في دنيا الشقاء والكدح.
الشجرة والأخشاب ارتبطتا بحياة الأنبياء ـ أيضاً ـ فمنهم من كان نجاراً يُصنَّع للناس كل ما هو نافع من أدوات مثل زكريا ونوح عليهما السلام.
 والأخشاب ارتبطت بالتطهير ، فمنها صنع نوح عليه السلام سفينته التي حملت الصالحين لينجوا من الغرق ( وحملناه على ذات ألواح ودسر) ـ القمر: 13 . وعليها صُلِب السيد المسيح عليه السلام حسب المثيولوجيات المسيحية، ومنها اتخذ موسى عليه السلام عصاه لتتحول إلى معجزة سحرية تلتهم الحياة وتشق الصخور لتنفلق ويجرى منها الماء، وبها ضرب البحر  فانشق إلى نصفين ( وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيد سيرها الأولى ) ـ طه: 17، 21 .
ارتبطت الأخشاب كذلك بآيات الله العظمى عندما صنع منها الإنسان السفن (وأية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) ـ يس: 41 ، وكذلك ( ومن آياته الجوارى في البحر كالأعلام ) ـ الشورى: 32 .
ارتبطت الأشجار بحياة الإنسان الأول فمن ثمارها وتحت ظلالها تفيأ ومن أخشابها اتخذ أدوات صيده ووسائل حمايته وارتبطت بالحضارة الرعوية فالراعي يتخذ منها عصاه التي يهش بها على غنمه، وتحتها يتظلل من الشمس الحاقة وتحت سدراتها يرعى غنمه، كما ارتبطت بالحضارة الزراعية ومنها اتخذ الإنسان الأول أدواته الزراعة وكذلك اتخذها سقوفاً لكهفه وبيته ، واتخذ منها وسائل حمايته. ومن الأشجار تغذى على الفاكهة والثمار. وارتبطت بحياته بعد ذلك عندما ركب السفن من أجل التجارة والفتوحات والغزوات التي كانت تتم عبر البحار، كما ارتبطت بحياة الإنسان الثقافية والفكرية منها اتخذ أول أداة للكتابة (اليراع) .. أما في العصر الحديث فهي داخلة في كل مناحى الحياة تقريبا.  
بهكذا توسع من المثيويولجيا إلى الواقع تتحول الأخشاب إلى سيرة ، وإلى حياة، وإلى تاريخ سابق على تاريخ الإنسان نفسه وشاهد عليه بكل ما حواه من قيم إيجابية تسير مع الحياة في صيرورتها وتحولاتها نحو  التطور، أو شاهد على الإنسان في طغيانه وفساده وجبروته وظلمه لنفسه ولغيره.   
وفي إطار هذا المخزون الميثيولوجي والمعرفي تأتي تجربة محمد عبالحميد  هذه لتعيد اكتشاف هذه السيرة أو لتذكرنا بها أو لتعيد تفعيل جوانبها الإيجابية وعلى نحو شعري.
من الموجهات الرؤيوية الأخرى المحددات البيئية التي أثرت في الشاعر وربطت بينه وبين الأخشاب في وقت مبكر من حياته، فالدرسات الموضوعاتية تربط بين هذا المكون البيئي والمنتج الأدبي ربطا جوهرياً فما الذي يجعل الرؤية تتجه نحو احتضان هذه القيم الشجرية أو الخشبية لولا ارتباط الشاعر بها منذ الصغر؟، وما الذي يجعل منها هاجساً شعريا، وما الذي يفرضها كتيمات يتشكل منها عصب التجربة لولا أن هناك ارتباطاً نفسياً وروحيا بها وقد توافرت أمامه وتعامل معها وارتبط بها منذ الطفولة، والشاعر يصرح في نصوصه بأنه قروي نشأ في بيئة زراعية غنية بالأشجار وتتخذ من الأخشاب وسائل وأدوات المعيشة، وعلى ما سنفصل في هذا الجانب من خلال النصوص نفسها ونحن نرصد العلاقة بين الشاعر والأخشاب.
ونهاية لهذه الجزئية نأتي إلى الاستعداد النفسي والفطري ، ولعل قدرات المبدعين واستعداداتهم الفطرية متنوعة ومتشعبة بين القدرات الحدسية والتنبؤية و استقراء الواقع ومن ضمن هذه القدرات إدراك الممكنات الجمالية واستكناهها في الكون والنفس والحياة عموماً.
ولاشك أن التاريخ الشعري حافل بشعراء ومدارس أدبية فارة إلى الطبيعة بوصفها أُمًّا كبرى يجدون معها ما لا يجدونه في الواقع الصادم والصارم وخاصة الشعراء الرومانسيين الذين عايشوا الطبيعة وعاشوا معها شعرياً والتفتوا بعمق إلى جماليات غفل عنها الإنسان ووظفوا لذلك لغة شفيفة محملة بالعاطفة والوجدان، ولعل أميز ما لفت انتباههم عندما استداروا بأعينهم عن السماء إلى الأرض هي الأشجار والبساتين والخضرة والباري والمروج فاستكنهوا جمالها ووصوفوا تأثراتهم وروعة إحساسهم بها.. تجربة محمد عبدالحميد الشعرية في هذا الديوان وغيره من الدواوين تؤكد انتماءها لهذا الطقس الشعري الرومانتيكي وخلفياته الفلسفية اليوتوبية. ولعل ما يلي من الدراسة يؤكدد استعداداته الذاتية في اتجاه هاجر للواقع وشرور الإنسان محتضنا قيماً جمالية وممكنات جمالية أخرى يكاد يتناساها الإنسان، واجداً فيها نجعة روحية وجمالية مغايرة وبعيدة عن اعتيادية الحياة التي اتسمت بكثير بلادة وجفاء.
ولا أنهاك عن الإطار الفلسفي الذي يعتبر موجهاً قوياً من موجهات الرؤية الشعرية، بل أؤكد عليه فكل ما سبق طرحه من موجهات رؤيوية إنما يصوغ فلسفة الرؤية على نحو عميق.

وعلى ما سبق توضيحه ، يتضح لنا أن التجربة على المستوى الرؤيوي تنطلق من حس فلسفي جمالي يموضع الجمال موضعه المفترض في هذه الحياة، ويُدين الإنسان بوصفه عنواناً للشر الذي لا يستحق معه جنة الدنيا أو جنة الآخرة.
ولعل هذا الحس الفلسفي واضح في دواخل النص ودلالاته إذ يموضع الأخشاب في هذا الوجود موضعاً أكثر امتثالاً للحكمة، ولقيم الجمال والنفع وتغذية الحياة بأسباب استمرارها، ولنا أن نتجه صوب النص لنعاين تشكل ملامح رؤية الشاعر، وجذرها الفلسفي الجمال المثالي، أو اليوتوبي.
 فالشجرة سر الحياة : "نمت أبداننا من ثمارها / لتستمر الحياة / واحترقت لتدفئنا / وتحلقنا حول أوارها / لتستمر الحياة / ومن غصونها صنعنا نوافذنا على الحياة" (ص 65)
والأشجار أفضل من بني الإنسان فهي ليست مضطرة لأن تبدو بصورة غير صورتها، وليست مضطرة لأن تسير ضد رغبتها ولا تعرف التجمل الكذوب ، ومن ثم فهي مدرسة أخلاقية لمن يريد أن يقتدي بها، لذلك يتمنى الشاعر لو أن الله خلقه شجرة: " الشجرة أفضل حالاً مني / لا شك في ذلك / ليست مضطرة / لأن تتصبح بوجه فأر /  ولا مضاجعة كلبة / كل مساء / الشجرة  ليست مضطرة / إلى غسل أسنانها / لتبدو أروع لدى تصنعِّ / ابتسامة صفراء / حبيبي / لماذا لم تخلقني شجرة؟" ( ص 16)
الأشجار أفضل حالاً من الإنسان لأنها لا تعرف الخيانة، رغم أنها علَّمت البشر العناق: " من المؤكد أن البشر تعلموا العناق / من الأغصان الممتدة / الفرق / أن الشجرة لا تطعن شجرة من وراء ظهرها" ( ص 23 )
الأشجار تبدو خيَّـرة دائما وخلوقاً ومتواضعة، وطيبة ولا تعرف الغدر: " اللارنجة لم تفاخر بآبائها الأولين / والبرتقالة لم تقل أنا أنا / والتينة الوارفة لم تمنن على أحد / شجرة الخوخ أبداً لم تمنع خيرها / والنخلة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها /  لكن أخوتي رموني في الجُبِّ / حتى لا أقاسمهم الفتات !" ( ص 59)
الإنسان عليه أن يغبط الأشجار لكونها متسامية، ومستمتعة بالبراح ولا تعرف العلب الخرسانية والأماكن المزدحمة: " أحسد الأشجار على تساميها / أحسد الأشجار  على ملكوتها / وتنقلها بروحها في السموات والأرض / من غير أن تحشر نفسها في الميكروباص / ولأنها بلا سوأة لم تلجأ إلى ترزي يفصل لها ثيابا" ( ص 63)
والأشجار لها  أبعاد سرمدية ، فهي لا تموت ولا تتلاشى بل تتحول، ولهذا لا تبكي الموت ولا تخشاه مثل الإنسان" عند الأثلة سر النشأة / لذا ابتجهت بالمناشير / وما بكت على عمرها / وما حزنت على شمسها / وحقلها / فبعد أن كانت موطناً للعصافير / وحاضنة لرفرفات صغارها / تحولت إلى أسرَّة تهتز في ليالي الخميس / وما أبهجها من شجرة / أطلعها الرب على بدايتنا !!" ( ص64)
الأشجار ممتثلة لإرادة الله فيها، منسجمة مع الكون والأشياء ، وهي في عبادة للخالق دون ادعاء ودون تطرف، وبغير استتار أجوف خلف مظهر ديني .. التدين بالفطرة كما يُقال ، كما يتضح ذلك من نص "عبادة" : " مؤمنة بالفطرة / ومتدينة بطيعها/ وصلت إلى الله بلا لحية ولا جلباب قصير / ولأن أغصانها في تسبيح دائم / لم تكن بحاجة إلى مسبحة / ولأنها متصلة بربها طوال الوقت / لم تظهر عليها علامة الصلاة / تشرق عليها شمس الحقيقة كل يوم / فتتوحد مع الكائنات"  ( ص 5، 56 )  
وفي نص "خشبة الرب" على سبيل المثال، يتضح لنا من خلال الإضافة كعلاقة نحوية بين مفردتي "الرب" و "خشبة" حميمية العلاقة وخصوصيتها بين الأخشاب والرب بالكيفية التي تجعلها مستحقة لنهر الكوثر في نهاية النص، حتى أن النص ذكر على وجه الخصوص (رب الأخشاب) رغم أنه رب جميع المخلوقات ، ولكن بهكذا تخصيص يؤكد النص على خصوصية العلاقة بين كائن يمتثل لإرادة الله وحكمته وبين  الإنسان الممتثل لنفعيته وأهوائه.. علاقة لها وجه من الخصوصية لا يحظى الإنسان نفسه بها؛ فليس كل إنسان واقع في إطار هذه الحميمية مع الرب، وليس كل إنسان مستحقاً للكوثر أو سينهل منه.
في المقابل من ذلك تبدو صورة الإنسان بنفعيته مشعلاً جحيم الأخشاب من أجل التدفئة.. ثمة فارق بين من تحترق وتضيء من أجل الآخرين ممتثلة لإرادة الرب وحكمته، وبين الإنسان المتسم بالنفعية والبلادة خاضعاً لأهوائه ومصلحته فقط.
يقول النص:" خشبة مضيئة / ودافئة / لكنكم لا تشعرون بقلبها وهو يحترق / لا بأس / استدفئوا / لكن اشكروا رب الأخشاب / الذي وضع خطة آجلة / لتعويضها بنهر الكوثر" ( ص 5)
الإنسان أيضاً كلما اقترب من الأخشاب من حيث الهيئة أو الظرفية  كلما كان أقربه إلى الرب. فهراوة الرب أداة لرفع الإنسان من شقاء الدنيا إلى راحة الآخرة، ويد الفلاح الخشبية هي أداة لرفع الشكر والامتنان إلى الله.. في نص "هراوة" تتضح قيمة التخشب، وهو ضد الأنسنة، فيد الفلاح الخشبية في إشارة إلى يباسها ونحولها جعلته أقرب إلى الرب ومن ثم ارتفعت بالشكر للرب، وربما لو كانت على هيئة أخرى ما فعلت. وهكذا كلما اقتربنا من التخشب اقتربنا من الرب حتى لأن الرب بدا ـ نصوصياً ـ في رحمته مستخدماً الهراوة الخشبية كأداة رحيمة تنقل الإنسان من الشقاء إلى الراحة .. يقول النص:  هوى الرب بهراوته / على رأس الفلاح،/ ليريحه من التوغل في الشقوق / ونومة الظهيرة وسط النمل / كان على الفلاح / أن يشكر الرب / بدعاء ترفعه يده الخشبية" ( ص 6)
ولعل ما يدلل به الشاعر على نفس الفكرة ما ورد في نص "خشبتان" حيث نجد الخشبة أفضل حالا عند الله من الإنسان ممثلا في الصول عبدالحميد بطبعه القاسي وساديته ، حيث يرافق الحجارة في جهنم : " قال لي: / أنت خشبة / مسكين جداً / لا يعلم أن الخشبة أفضل منا جميعا / فالرب لم يجعلها وقوداً للجحيم / لكن وقودها الصول عبدالحميد والحجارة" ( ص 39)
وتعزيزا لفكرة التخشب التي تعطي الإنسان قمية أعظم  يأتي نص "جفاف" ليحط من قيمة الجمال الجسدي الإنساني مقابل جمال الأشجار الخضراء بما يسبب شعوراً بجفاف الحياة، ولذلك يعرب عن تلهفه إلى جسد يشبه لون الأشجار " لا أستسيغ رؤيتها/ ليس خجلاً / فكم طالعت ألوانا من السيقان والصدور / لكني متلهق / على جسد أخضر / لم يصادفني طيلة جفاف عمري" ( ص 13)
والأخشاب شهدت فداحة البشر وهم يصلبون الأنبياء لتكون أحن عل المسيح من قلوب البشر حين عانقت روحه، كما نطلع نص "صلب" : " الشجرة التي صُلب عليها الحبيب / هل اعتبرت نفسها / أشقى الأشجار / أم ابتهجت / لأنها عانقت روح المخلَّص / وهي تصعد إلى الرب؟!" ( ص 44)
ولعل هذه الوضعية المخصوصة للأشجار جعلت الذات الشاعرة تستفيض في وصفها وتعديد فضائلها على البشر والحياة عموماً.
فهي رمز للصلابة والتحمل والصبر ومقاومة عوامل التصرم ، ولذلك فالشاعر يرى الأم في صورة شجرة السنط :  السلام عليك / يا أماه / الآن أيقنت أنك سنطة / فأغصانك لم تنحنِ / رغم ثمانين عاماً من العذابات / وحَملِ الأحباب إلى قبورهم / ومعاركة قبيلة تعادي الله / وتقتل الأنبياء" (ص 45)
هكذا هي صورة الإنسان عندما يرقى في الإنسانية يصل إلى مرتبة الأشجار عظمة فوق مآسي الزمن ، واستمراراً للعطاء.. هي ليست مجرد صورة استعارية تضع الأم موضع السنطة، لا .. بل هي الحميمية التي تربط الذات الشاعرة بالأشجار مثلما تربطها بالأم استدعت طرفي في علاقة استعارية تبدو فيها الذات الشاعرة على مسافة واحدة من الشجرة والأم بمايؤكد العلاقة الحميمية بين الشاعر والأشجار والخشب عموما ، حتى أنها تعظم في نظره لدرجة القدوة الأخلاقية .. ليس الأمر مجرد رصد علاقة حيميمة بين الشاعر والأشجار ولكنه سير في نتائج هذه العلاقة حينما تتحول الأشجار إلى قدوة أخلاقية مثلما نقرأ في نص " قيامة الأشجار":
"لا يكفي أن تغرسوا الأشجار / لتزينوا بها الشوارع والطرقات / فالأهم أن تتخلقوا بأخلاقها / الشجرة مثلي الأعلى في اخضرار الفؤاد / ومنح الخير للكائنات / الأغصان قدوتي في التسامي عن الضغائن / ما من غصن أُلقيَ بحجر إلا وجاد بالحياة " ( ص 48) حتى لأن ضمير الذات الشاعرة يلتبس بضمير الشجرة في ذات النص وهي تباهي بأخلاقها التي لم يرقَ إليها الإنسان: " وما من شخص طعنني / إلا ودعوت الرب أن يعفو عنه / ويطهره من شروره / صاحبي الذي خانني وباعني في مزاد علنيّ / لم أطرده من جنتي / واسكنته ربوتي / ولم أكشف سوأته حينما ذاق تفاحتي" (ص 49).
هكذا هي الأشجار قدوة للإنسان في هذا النص وغيره من النصوص.
 الأشجار أيضاً وعلى نحو ما أثرت في روح الشاعر ووجدانه وصاغت رؤيته في الحياة يمكنها أن تهذب أرواح البشر وتعيد هندسة نفوسهم على نحو أكثر امتثالا لقيم الجمال والخير والحق في هذه الحياة، كما يتضح ذلك من نص "قيامة الأشجار" حيث يتجه النص في إيغال لازماني إلى بداية تخَـلُّق العنصر الشجري فوق الأرض، راسمة صورة الحياة وكأن الأصل في الحياة هو الأشجار بكل ما تمثله من قيم لولا تدخل الإنسان الذي لم يستفد من مدرسة الأشجار أو وجوده في معيتها وانحرف عنها إلى قيم نقيض هادمة للقيم الشجرية: " فتنشق جذوع الأشجار عن ملائكة / وربانيين / وشعراء / وغارسين للمحبة برتبة أنبياء / وعشاق / ومعذبين في الأرض / ومحترقين صفواً / ونازفين براءة بلاد الكفيل / ومعمدين في مياه النيل / والمصلين صلاة الحزن لوقتها/ وبكائين إذا رأوا قمراً حزيناً / وخادمين للأغصان / وسماويين نالوا صك المحبة من خازن الغابات / وواقفين في وجه مدعي النبوة .." ( ص 50، 51) وإلى أخر النص الذي احتضن كل الفطريين والبسطاء والفقراء والنبويين والربانيين والحقيقيين والجماليين والخيرين في هذه الحياة، جميعهم ينتمون إلى مدرسة الأشجار وجميعهم شجريون يمتُّون إلى قيم الحق والخير والجمال، وجميعهم مَن يرسمون وجه الحياة الخير النقي الفطري البرئ في وجه المفسدين والظالمين والمدعين والمتغطرسين .. إلخ.
الأشجار في هذا المنحى أيضاً بدت مطهِّرة ومخلِّصة روح الإنسان من الآثام ، ولذلك يلجأ إليها الشاعر في لحظة شعوره بالندم على حرق شجرة موسى .. شجرة موسي التى امتثلت للحرق من أجل نزع فتيل الحرب بين مختاصمين عليها كانت بمثابة المسيح الذي يموت تكفيرا عن خطيئة البشر .. يقف أمامها الشاعر كذات: "يا مانحة روحك مقابل المحبة / لا تحمليني إلى جهنم / ودعى روحَيّ مَن تنازعا تحلُّ / في أغصانك" ( ص 27 )
أما عن فوائد الأخشاب النافعة للإنسان البدائي أو العصري، الذي اتخذ أدواته منها فهي كثيرة في النصوص منها السواقى، والتعاريش ، والأبواب، والهراوات والنوافذ  والأسِرَّة وسقوف البيوت، وخشبات المسارح وصناديق للبريد، واليراع، وشواهد قبور وغير ذلك كثير ، غير ما تقدمه للإنسان من ثمار وفاكهة وظلال للمقيل والراحة، وغير ما تقدمه من بهجة الخضرة والأغصان ، وغير ما تقدمه من موسيقى الحفيف التي تخش في ملكوت الحياة لتزيدها روعة ومتعة.
وفي هذا المنحى لم تبدُ مهمة الأشجار ضارة إلا بتدخل الإنسان بوصفة أداة للشر ومفسداً للفطرية ومحولا لمسارات الحياة وطبيعهتا، فهو الذي حول هذه الأدوات من قيمة نافعة إلى قيمة ضارة للتعذيب والأذى والقتل، محوِّلا قيمتها الجمالية والنافعة إلى قيم سالبة وضارة ومؤدية للنفس والبدن ربما أيضاً للعقل: للنظر مثلا الصول عبدالحميد كرمز للإنسان القبيح الشرير القاسي .. لننظر إليه كيف يستخدم الأخشاب والأشجار وكيف يحولها إلى قيمة سلبية للتعذيب:
" وخشبة الصول عبدالحميد / التي أدمتني / لأنني برأيه / جئت إلى الدنيا خطأ / وزُرعت في رمال الكتبية خطأ / وأمسكت البندقية خطأ " ( ص 39) ومثل الصول عبدالحميد يأتي المعلم مستخدماً الخشب في الأذى " في الحصة الأولى / سألت معلمي: / هل للسماوات سبعة أبواب من خشب؟ / فارتسمت خشبته في يدي " ( ص 15) .. وانظر إلى االقائد في الكتيبة كيف يستخدم الأشجار في غير ما خُلقت له، وكيف أن الأشجار  تُصلح ما أفسده: " لما نسيت بندقيتي / عذبني القائد / وقال ارسم سلماً واصعد عليه / ولما سقطت في آخر درج / أحرقني وقال اركض وراء شجرة / ولما لهثت وكدت ألفظ روحي وراءها/ أرْخَت أغصانها عليَّ " ( ص 13)  والإنسان عموما استخدم اليراع في الكتابة من أجل تسويغ الكذب ـ على ما مر بنا ، وهو أيضاً من سيتخدم الحقيقي الخشب في غير الحقيقي / خشبة المسرح، وهو الذي صنع من الأخشاب مشانق وصليبا لصلب الأنبياء ، وصنع منها أبوابا للسجون، على ما نقرأ في نص حظوظ : أثلة يابسة : أصبحت بوابة سجن / خوخة بهيجة: تحولت إلى خشبة مسرح / زيتونى مغتاظة: خطفها يهودي من حقلها باسم الرب / رمانة مستحية: ابتاعتها مراهقة ووضعتها صنو صدرها/ سنطة معذبة: صنعوا منها بوابة لغرفة الإعدام" ( ص 61) لذلك يتساءل الشاعر ما ذنب هذه الأخشاب التي يحولها الإنسان عن فطريتها ودورها ليعذبها معه أو لتشاهد العذاب أو لتشارك مرغمة فيه، أو لتستخدم في طمس الحقيقة او تزييفها، مثل هذا التساؤل نجده في نص " بأي ذنب؟" : " سدرة الصحراء / ما ذنبها حتى تتحول إلى صنم يعبده أبوجهل ؟ / والتفاحة العارة بالزقزقة / ما الذي جنته حتى تصبح بواب سجن؟ / وبوابة بيتي / كيف صبرت كل هذه السنين على غيابي؟ " ( ص 58)
ولذلك يبدو الشاعر مشفقا على هذه الأخشاب من الإنسان على ما نقرأ في نص صندوق بريد: " كان الله في عون شجرة التوت / فبعد أن كانت ترتع في براح الحقول / اجتثوها لتصبح صندوق بريد / ما من رسالة ملتاع ألا وجرَّحتها / وما من كلمات عاشق إلا عانقت جمرتها/ وما من شكوى إلا وألهبت فؤادها / كان على التوتة أن تشكر البريد الإلكتروني / الذي رحمها قليلا" ( ص 60)
هكذا تتموضع الأخشاب موضعاً لم ينله الإنسان، وفي هذا المنحي تتضح لنا رؤية الشاعر المتجهة نحو إدانة الإنسان بوصفه أداة للشر والقبح والعدوان والتدمير وككائن ديدنه البلادة والنفعية والغباوة. ليس هذا فقط بل لتعبِّر عن معاناة ذاتٍ شجرية تنتمي إلى قيمها مع واقها الذي يتأبى عليها ذلك ويتجه بها نحو قيم لا إنسانية تباعد بينه وبين عالمه الروحي الجمالى المثالي بما يشكل مأساة إنسانية في النهاية تجلب الحزن لنا جميعاً ، حتى لأن فقد ملامح هذا العالم الشجري بدا مَحزنة كونية: " كما ترصَّد أخوة يوسف أخاهم بالشر: "وأخوة لي رموني في الجُبِّ ليكون لي شأن عظيم / أنفخ في السيقان والأوراق والثمار / فتنشق عنا جميعاً / فنبكي معاً / ونصنع من دموعنا نايات تعزف للسموات المنفطرة " ( ص52)
ولعل نص "زواج"  يشف عن الوضعية المتدنية للإنسان حتى في علاقاته الحميمة في مقابل الأشجار التي بدت أكثر سمواً: يقول النص: "سؤال حيرني طويلا: / ـ هل تتزوج الأشجار وتنجب أطفالاً مثلنا؟! / قال لي شيخي: / الأشجار  في الحقيقة بشر / فإذا جن الليل / سمت تينة إلى تينة/ ورمانة إلى رمانة / ونخلة إلى نخلة / وبرتقالة إلى برتقالة / وتعانق الأغصان / محبة وصدقاً / لا كما يفعل البشر من أمثالنا / رجل يضاجع حمارة / وامرأة ترفع ساقيها لكلب !" ( ص 47)
ولعلنا لا نلمس ـ في هذا النص ـ مجرد تدني البشر إلى مستوى الحمير والكلاب فقط، بل نلمس أيضاً ما فوق ذلك من مفارقات العلاقات بينهم.

القيم الجمالية في "سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت" (3)

عبد الجواد خفاجي - ناقد وروائي مصريّ

السِّيَرِيَّة:

في هذا المنحى المعزز لقيمة الأشجار وروعتها  تتضح لنا حميمية الشاعر ـ التي استوجبت رهافة التعبير ـ مع الأخشاب، وهي حميمية تجسدت نصوصياً من خلال آلية سِيريَّة سردية تحتضن علاقة الذات الشاعرة بالأخشاب في مراحل عمرية متعددة وفي وضعيات تشَكَّل فيها الأخشاب بأشكال عدة حيّاً كأشجار في الحقول والبساتين والبراح أو ميتاً كأدوات يستخدمها الإنسان، أو من خلال وضعيات أخرى تتنوع بين النار والماء واليابسة، ومن خلال هذه العلاقة بين الذات والأخشاب يبدو التأريخ كأشارة زمنية وسيرية مهمة لقيام  الأخشاب كعنصر فاعل في تاريخ الوجود وبوصفها المستحقة الحقيقية للتأريخ وليس هذا الكائن المفسد  المسمى إنساناً.
غير أن السيرية بما تضمنته من سرد ، وحوارات وتأريخ للعلاقات  أضفت على النص حيوة وحركية، وعبأته بتمثيلات وتفاعلات درامية مثل السرد والحوار، ساهمت في توضيح الرؤية من جهة، وأخرجت النص من حالة البوح الذاتي ليصبح حياةً لها حظها من المصداقية، بل ليصبح صورة للحياة والواقع بكل تناقضاته ومفارقاته.
ولعل السيرية في النصوص تتجه اتجاهين أولهما سيرة الأخشاب في الحياة، وثانيهما رصد العلاقة بين الذات الشاعرة والأشجار منذ تفتح وعيه، وقد كانت الأشجار بمثابة الأم الأخرى التي أرضعته حب الجمال والخير وهذبت روحه وجعلته متخلقا بأخلاقها.. الأشجار في هذه العلاقة السيرية ليست مادة جمالية فقط وإنما هي مرجع أخلاقي ومدرسة فطرية للنقاء والخير والجمال، وقد رصدت نصوص كثيرة هذه العلاقة في إشارات زمانية عمرية مختلفة، وكذلك مكانية، ليتضح في النص البعد السردي الذي يركز على إبراز العلاقة بتفاعلاتها المختلفة وما صاحبها من أحداث.

وأول ما يطالعنا من ملامح هذه العلاقة أنها اتسمت بالحميمية الشديدة .. يقول:
" فنثرت أيامي في البراح / وأطلعني الكون على أسراره عند سنطة / علمتني دروس الحياة بلا عصا تلهبني / وشربت من نبع الأحلام عند تينة / واكتشفت علاقة حميمة / بين جميزة وترعة عجوز / وأول قبلة اختلستها شهدت عليها كافورة / وأول عادة سرية باركتها تكعيبة عنب / وأول حزن تنزل عليَّ رتلت أناشيده جميزة .. إلخ" (ص 32)
ومثل هذه الحميمية نقرأها في نص "حافظة للسر" : تبعثرت الحكايات عني / قيل ندهته الصفصافة فتزوجها / وأخرون أرجعوا شرودي / إلى شياطين الحقول / وحدها الصفصافة تعرف سري / ربتت على دمعتي / مرة حين رسبت في الامتحان / وحدها الصفصافة / تعرف أسراري / ولم تبح بها / كما فعلها خائن صادقته يوما !!" ( ص 37)
غير أن ثاني ما نرصده في هذه العلاقة أنها أصيلة، بحكم نشأته في عالم القرية المترع بالأشجار والخضرة: " قلبي قروي يسبح في الترعة / إن حنَّ وإن خاف" (ص 30)
وكذلك: " لأن ضلوعي نمت تحت نخلة / تبهرني النساء الشاهقات " ( ص 62) هكذا يرتبط الشاعر بالنخيل ارتباطاً زمنياً منذ بداية حياته، ومن ثم كان لهذه العلاقة أثرها في تشكيل رؤيته لحياة بعد ذلك. ومثل هذه العلاقة يوضحها نص "نعش طيب: " طيبة جدا / وتحملت شقاوتي صغيرا / وضحكت لمرحي حول جذعها .. إلخ" (ص 10) وهو يرى أن علاقته بالكائنات الجميلة الأخرى بدأت في معية الأشجار " فقد بايعتني العصافير / تحت جميزة / فغارت السدرة العجوز" ( ص 11)
غير أن هذه العلاقة المبكرة لم تكن طارئة بل تأصلت في نفسه لدرجة أن تهديدات الأم بالعقاب لم تفلح معه في انهاء علاقته بالأشجار، على ما نقرأ في قصيدة "عفاريت الأشجار: " قالت لي: الأشجار مسكونة بالعفاريت / لكني وأنا المسكون بالتمرد / لم  تفلح التهديدات ولا الضرب على قفاي / من جعلي كائناً أرضياً / وتماديت في تسلق الكافور والتوت والمانجو / لعلي أحظى بعفريت واحد أسأله: / أين روح أبي"  ( ص 25) ليس الأمر مجرد علاقة عابرة وإنما هي علاقة تسامي روحي عن وضع أرضي نحو عالم سحرى غيبي يربطه بأبعاد أخرى غير منظروة للوجود.
ولنقرأ مثلا في نص "قيامة الأشجار" يتضح لنا أيضا أصالة العلاقة وأثرها الأخلاقي على الشاعر: "أنا غارس الأشجار / فكيف لا أمتثل صفاءها وشموخها / أنا ابن الأشجار ولا فخر / أنا سيد الشجريين ولا فخر" ( ص49) غير أن العلاقة تتسع إلى أكثر من هذا التمثيل النسبي إلى انفتاح لازماني وكأن العلاقة روحية منذ بداية التخلق: " أنا أول نافخ في سيقان الكافور والغاب والموز ... إلى أخر الحشد الممتد من أسماء الأشجار. ( ص 50) .
ولكل ذلك هو صاحب خبرة مبكرة بالأشجار ومنفتح على عالمها السحري اللازماني ويعرف أسرارها ، ومن ثم استحق عن جدارة لقب "سيد الشجريين" ولعل نص "من منكم يعرف الأشجار مثلي" : يؤكد جدارته بهذا اللقب ، غير أن النص يعد رصدا لعلاقته الطويلة بالأشجار ويحوي كثيراً من تفاصيل تلك العلاقة ليس على مستوى اللارتباط النفسي والروحي والأخلاقي والجمالي ، بل أيضاً على المستوى النفعي فقد ارتبطت الأشجار بتفصايل حياتية كثيرة تخصه: " أنا الذي بزغت روحي في الحقول / وغرستُ مواويلي في خطوط محراثي الخشبي (....) أولى قصائدي ولدتها تحت صفصافة / أول سيجارة مزجتها بدمع نخلة / وأول نهد صادقته بين سدرة وخوخة / شوكة الغيطان تعرف قدمي / ويدي شائكة كفروع السيسبان / السنطة صاحبتي / منحتني ما ألصق به كراستي المتهرئة / حينما عجزت أمي عن منحي قرشاً ...إلخ ) ( ص 31) غير أن هذا النص لم يخلُ من التأريخ لعلاقات أخرى وتفاصيل أخرى تخص أخرين، هذا التاريخ جاء بمعية سرد تفاصيل العلاقة بين الشاعر والأشجار التي تعد في حد ذاتها تأريخا لتطور العلاقة .
فالذي يقرأ نص : شجرة موسى" يلمح هذا التأريخ لحرق شجرة موسى والنزاع الذي نشب حولها: " لم أولد مجرماً / لكني أردت نزع فتيل الحرب على كنوزك / بين أخي / وموسى / فليرحمهما الرب" وهكذا يتحول يوم الحرق إلى يوم انتهاء الحرب بين الأخ وموسى . غير أن النص يحوى تفاصيل سردية أخرى شيقة حول عملية الحرق نفسها وكيف تمت.
غير أن من طرافة القول ما بدأ به النص من اعتراف الشاعر " أنا القاتل" ورغم طرافة المفتتح وصراحته إلا أنه يحمل دلالة ضمنية، تقود إلى تصنيف قانوني جديد لتعريف القاتل ، فهو من وجهة نظر الرؤية الشعرية في هذا الديوان هو من يقتل شجرة ليس بوصفا شئاً ولكن بوصفها روحاً سامية.
غير أن التاريخ نجده أيضاً في ثنايا علاقة الشاعر بالأشجار في موضاع أخرى مثل نص "من منكم يعرف الأشجار  مثلي": " أنا الذي رأيت عمي أنور / يصرخ: بناتي ... ب ن ا تي / حينما قررتْ سدرة إغفاءه من جحيم عذاباته / في حمل القصب المحروق / وبيع الليمون / وزراعة غيطان الأفاعي / فأسقطت جزعها على رأسه / لتنقله إلى الجنة" ( ص 33 ) ويُعد أيضاً نص "أنصاف والخشب" لوناً تأريخيا شعرياً عن موت أنصاف وعلاقتها بالأخشاب وعلاقة الشاعر بها  وبالأخشاب وتفاصيل أخرى عن حياتها.

******
على ما أسلفنا يتضح لنا خصائص مميزة لرؤية الشاعر منها أنها اتسمت بالإنسانية ، وكان لها مراميها الأخلاقية كرسالة تهذيبية للروح والوجدان، ولها محدداتها الجمالية التي تحتضن قيماً شجرية تكاد تكون من ثوابت الجمال في هذا الوجود . على أنها كانت تحمل كثيراً من النقد للإنسان غليظ الطبع المجافي لقيم الجمال في  الكون، والذي يتسم بالغطرسة ويرتع في الفساد الروحي والأخلاقي . وكانت لهذه الرؤية بمحدداتها هذه جذورا فلسفية ومثيولوجية ومعرفية وبيئية واستعدادات ذاتية وجهتها.
بيد أنني أشير إلى النص الأخير في الديوان الذي جاء متسماً على عكس بقية النصوص بحس غنائي عالٍ مشمولا بنبرة أسف وأسى على حال الذات الذي باعد الزمن بينها وبين عالمها الشجري، كما بعد بين البشر وبين القيم الجمالية الشجرية التي لم يلتفتوا إليها ولم يستفيدوا منها ولم يعايشوها. ومن ثم جاء النص كمرثية أخيرة للذات والإنسان والقيم الشجرية الضائعة:

" يا طينة الأض التي أنجبتني
أين الحديقة ؟ من غزا عنابي؟
نهشت سنيني غربة وشقاوة
ورجعت أتلو سيرة الأخشاب
خشب على روحي نما وترعرعت
قصص الحياة على أسى أعتابي ......... إلخ.

******
وأخيرا نشير إلى بعض الجوانب الفنية في الديوان ، وقد سبق أن أكدنا اعتماد الديوان على وحدة موضوعاتية هي "الأخشاب" وقد كان لهذه الوحدة الموضوعاتية تجلياتها الفنية على مستويات عدة، أولها الوحدة النصية، أو بالمعنى ترابط النصوص في كلَّ موحد ، يتكامل رؤيوياً كما يتكامل فنياً، ومن ثم فإن أشدًّ ما يفسدُ هذه النصوص ويضر بها هو الاجتزاء ، فالنص لا يسير لوحده وإن كان فسيظل ورقة شجرية معلقة في الهواء.
وتكامل الديوان فنياً يعني تكامل لبناته الدرامية بين السرد والحوار والجمع بين المتناقضات واكتشاف الفارقات . وقد وضح الجمع بين المتاقضات على مستويات عدة منها: الخير والشر، والقبح والجمال، والأشجار والبشر، والشاعر والآخرون ، والماضي والحاضر، والحياة والموت، والعطاء والحرمان، والفطرة والصنعة .. إلى آخر المتناقضات التي كان الجمع بينها مخلفا دائما مفارقات درامية مدهشة.
الوحدة الموضوعاتية كان لها أيضاً اشتراطاتها على القاموس الشعري الذي جاء بجملته منتميا إلى هذا الثابت الموضوعاتي فكان موزعاً في اتجاهين: أولهما يخص الذات الشاعرة في تراميها نحو الأشجار ونفورها من العالم غير البشري بما يحويه من أخلاق ومظاهر كاذبة مصنوعة، ومن ثم كانت لغة الوجدان حاضرة، وتمت بجملتها إلى جوانيات الشاعر وما يحب وما يكره وكانت أيضاً مشتملة على لغة تمت إلى عالم الأخلاق من أمثال الصدق والكذب والفطرة والصنعة وكذا وكذا.
أما في احتضانها لعالم الأخشاب فكانت حافلة بكل أنواع الأشجار وأجزائها وما ينتج عنها وبيئتها وما تحويه من كائنات.
ثمة هارمونية لغوية قاموسية محددة بهذه المحدات فرضتها الوحدة الموضوعاتية مما جعلها إلي حد ما محتضنة للقيم الرؤيوية التي تمتُّ بجملتها لعالم الأخلاق والأشجار والعاطفة.
كما فرضت الوحدة الموضوعاتية ملمحاً رصدناه منذ البداية وأعني به التجنيح المجازي نحو تشخيص الأشجار وإضفاء طابع الذاتية عليها، بما ساهم في تخليق عالم خاص بها موازٍ لعالم البشر وإن زاد عنه عراقة.
أتمنى أن أكون قد وقفت في تناول تجربة متسمة بالخصوصية والإنسانية والجمال لشاعرنا محمد عبدالحميد توفيق أدام الله توفيقه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ديوان (سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت ) صادر عن دار التلاقي للكتاب بالقاهرة ـ أغسطس 2009 م
* محمد عبدالحميد توفيق: شاعر مصري من مواليد 12/7/ 1971 م  بمحافظة قنا بجنوب مصر، يعمل صحفيا بجريدة القبس الكويتية، بدأ حياته معلما للغة العربية

 

تعليق عبر الفيس بوك