علي بن مسعود المعشني
تشرفت مؤخرًا وأخيرًا بزيارة اليمن، بعد صراع مرير بين الشوق والظروف الاستثنائية التي تعيشها اليمن، وحين تغلب الشوق دانت الظروف وتطوع الزمن فعقلت وتوكلت فلقيت ما لا يخطر ببال.
كان خط سيري إلى صنعاء عبر طريق الصحراء الممتد من منفذ شحن الحدودي وصولًا إلى تريم فسيئون فمأرب فالعبر فالبيضاء فرداع فذمار ثم صنعاء، حيث وصلتها في اليوم التالي ليلًا نتيجة رداءة حالة الطرق ووعورتها ونقاط التفتيش ثم المبيت برداع للراحة وصيانة السيارة مما لحق بها من إجهاد الطريق. فكل شيء في اليمن اليوم في حالة إجهاد شديد وواضح للعيان إلا الإنسان اليماني الذي يتجدد كل يوم رغم كل الأزمات والمحن، فاليمانيون لا يموتون بل تتناسخ أرواحهم لتتجدد الحياة ورحيقها من الكرامة والعزة والكبرياء.
في صنعاء تجد اليمن كل اليمن وكأن صنعاء أم اليمن واليمانيين، فصنعاء ليست عاصمة ولا مدينة بل فكرة جميلة نسجتها القيم الإنسانية الفطرية قبل أن تتمجس الإنسانية أو تتهود أو تتنصر، لهذا ترى صنعاء كالأم الحنون المعطاء، وترى في صنعاء الوفاء والصبر العظيم الذي يسبق الفرج العظيم، وتجد في صنعاء الإنسان الفطري الطاهر كقطرات المطر التي لم تمتزج بتراب الأرصفة والطرقات.
ففي صنعاء كل شيء ينطق الإنسان والحجر والشجر، فكل له أحاسيسه ولديه الكثير مما يختزله بداخله ويتحين الوقت ليقوله.
الفقر في اليمن ينطق بمرارة في كل جنبات اليمن طرقها وصحاريها ومدنها ووديانها وجبالها، ولكنّه الفقر على الطريقة اليمانية حيث العفة والشكر والمواساة والإيمان المطلق والعميق برحمة الله ولطفه، لهذا ترى الله في اليمن بالعين المجردة بلطفه ومشيئته وعنايته ورعايته.
في اليمن ترى مقولة الصحابي أبو الدرداء شاخصة أمامك حيث قال: "أحذر أن تظلم من لا ناصر له إلا الله"، وترى أبيات شعر الشاعر العروبي عمر أبوريشة في قصيدته (في طائرة) حيث قال في وصف العرب:
قلتُ يا حسناءُ مَن أنتِ ومِن
أيّ دوحٍ أفرع الغصن وطالا؟
فَرَنت شامخةً أحسبها
فوق أنساب البرايا تتعالى
وأجابتْ: أنا من أندلسٍ
جنةِ الدنيا سهولاً وجبالا
وجدودي، ألمح الدهرُ على
ذكرهم يطوي جناحيه جلالا
بوركتْ صحراؤهم كم زخرتْ
بالمروءات رِياحاً ورمالا
حملوا الشرقَ سناءً وسنى
وتخطوا ملعب الغرب!! نِضالا
فنما المجدُ على آثارهم
وتحدى، بعد ما زالوا الزوالا
هؤلاء الصِّيد قومي فانتسبْ
إن تجد أكرمَ من قومي رجالا
أطرق القلبُ، وغامتْ أعيني
برؤاها، وتجاهلتُ السؤالا
التقارير الأممية تتحدث عن 19 مليون إنسان يمني يعيشون اليوم تحت خط الفقر أي أنّ هؤلاء جميعهم يقاتلون العيش لنيل وجبة واحدة في اليوم، وقد رأيت هذا في صنعاء وعدن، وذوي الاحتياجات الخاصة تضاعفت أعدادهم من مليونين قبل عام 2011م إلى الضعف على الأقل منذ اندلاع الحرب، وهم في الغالب ضحايا الاحتراب الخارجي والداخلي، والكارثة اليوم تتمثل في انعدام الرعاية والدعم والعلاجات والدعم الداخلي والخارجي نتيجة الحصار وتسييس المعونات.
يراد لليمن إخراج جيل أمي بالعلم والحياة معًا وفقير من المال والأخلاق وعديم المناعة الجسدية بفعل غياب الرعاية الصحية والغذاء المناسب، فآثار الحروب عادة من فقر ومرض وإعاقات ونزوح ووظفت جميعها لتصبح أدوات للحرب في اليمن من تجويع وحصار وإفقار منظم بفعل الحرمان من الرواتب والذي بلغ العام والنصف في مناطق شمال اليمن ويتذبذب ما بين الثلاثة والتسعة شهور في باقي المناطق.
الضروريات في اليمن أصبحت بفعل الظروف كالكماليات في البلدان الأخرى حيث استبدلت الناس الكهرباء بالطاقة الشمسية بعد أن دمرت الحرب أغلب المحطات الرئيسية لتغذية المدن الرئيسية الكبرى ومنها العاصمة صنعاء، وبالنتيجة فقد الناس تواصلهم المنتظم مع العالم والوسائل الكهربائية وهجروها غلى حد كبير، كالتلفزيون والحاسوب وشبكات التواصل الاجتماعي، حيث تزاحمت الأولويات وحصرت حياتهم في المأكل والمشرب وعلى حساب كل شيء وحتى نفقات العلاج في ظل غياب منظومة التأمين الصحي ومجانية العلاج.
لو زارت اليمن مخلوقات من الفضاء في هذا الظرف لكذبوا واقع حرب على اليمن بفعل ضجيج الحياة وحراك الناس وسعيهم وانتظامهم في أعمالهم وتندرهم وتعاونهم وتكدس البضائع في المتاجر رغم شُح السيولة فاليمانيون خبراء بحق في صناعة الحياة.
قبل اللقاء: في اليمن تجد الكثير مما يستحق التضحية والحياة، وفي اليمن تجد ما يسد الرمق ويفي بالغرض رغم كل الظروف.
وبالشكر تدوم النعم.