جمال الكندي
الحربُ العالمية الثانية أخرجت لنا معادلة سياسية واقتصادية واجتماعية كان عنوانها الرئيس: انقسام العالم إلى معسكرين؛ معسكر رأس مالي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، ومعسكر اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، طبعا إن هاتين الدولتين خرجتا منتصرتين في الحرب العالمية الثانية، واستغلتا قوتهما بعد الحرب لقيادة العالم، فانقسم العالم بينهما في تبني النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكلا الدولتين.
منذ ذلك الحين، أصبحنا نرى دولاً ذات نظام اشتراكي في الاقتصاد والسياسة، ودولاً ذات نظام رأسمالي كذلك في الاقتصاد والسياسة، وأنشئت من أجل ذلك الأحلاف السياسية والتكتلات الاقتصادية التي تحمل هذا الفكر وذاك، وكانت تحمي هذه الأيديولوجيات قوة عسكرية غير تقليدية عرفت بالسلاح النووي والصواريخ العابرة للقارات، وهذا ما نسميه عسكريًّا "توازن الرعب العسكري"، وحينما يستخدم أحد الأطراف هذا السلاح يعلم بأن الآخر سوف يستخدمه كذلك.
نحن هنا لا نتكلم عن سلاح تقليدي، بل نتحدث عن سلاح نووي مدمر، من أجل ذلك كان هذا التسابق في الصناعة الصاروخية الدفاعية والهجومية بين أمريكا وروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق.
بعد الحرب العالمية الثانية إلى وقت سقوط الاتحاد السوفييتي، كان العالم يدور في فلكين -كما قلنا- اشتراكي ورأسمالي، وبنيت على أساسه نظرية التوازن العسكري بين بلدان العالم، وأعني بذلك أن النزاعات السياسية والعسكرية كانت تأخذ المنحى الأمريكي والسوفييتي في التعاطي والتجاذب العسكري والسياسي، وهذا بدوره كان يفيد دول العالم، فمثلاً الصراع والنزاع العربي الصهيوني كان قائماً منذ العام 1948، والتعاطي الغربي الرأسمالي كان دائماً يقف مع الإسرائيليين. وهنا، برز التباين بين المعسكرين؛ فكان الدعم السوفييتي في حرب 1973 واضحاً للعرب سياسيًّا وعسكريًّا، مقابل الدعم اللامحدود الذي قدمته أمريكا لربيبتها إسرائيل وحلفاؤها الأوروبيون، ونقيس على ذلك بقية النزاعات في العالم من الأزمة الكوبية والفيتنامية، وقبلها أزمة شبه الجزيرة الكورية.
هذا كله نتاج توازن القوى في العالم؛ سواءً كان ذلك سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا. هذا التوازن خلق لنا عالماً متعددَ الأقطاب كل قطب يحترم الآخر، وهذا النظام كان قائماً بعد الحرب العالمية الثانية واستفادت منه الدول بتحالفاتها العسكرية والاقتصادية، والذي بدوره حفظ إلى حد كبير التوازن العسكري والاقتصادي في العالم، وكما هو معروف كانت أهم نتائجه الانتصار العربي الكبير في العام 1973 على الكيان الصهيوني.
نظام القطبين أُرِيد له أن ينهار ليبرز قطب واحد فقط يكون هو الآمر سياسيًّا واقتصاديًّا، والمحرك للحروب حسب رؤيته، ومن أجل ذلك كانت لعبة الحرب الباردة من أجل إسقاط القطب السوفيتي، والذي كما هو معروف نجحت بتفكيك المنظومة السوفيتية عام 1991م إلى ما يقارب خمس عشرة دولة.
بعد هذا الانهيار، برزت قوة واحدة في العالم، بلا منازع لعقد من الزمان تقريباً، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل تفردها بالقرار السياسي والعسكري، احتلت بلداناً عربية وغربية بدعوى حقوق الإنسان، وحاصرت دولا بذرائع واهية، فكانت أمريكا هي من تبدأ الحروب، وهي في نفس الوقت من تدعي إطفاءها.
توازن الرعب هو الإستراتيجية الجديد لروسيا بوتين في مواجهة هيمنة القطب الواحد على القرار السياسي والعسكري في العالم، وهو محاولة لإيجاد توازن في القوى تستثمره الدول غير المنضوية تحت النادي النووي، وهذا بدوره يخلق لنا معادلة جديدة شبيهة بالتغير في الرؤية التشاركية والمنفية بينها وبين الحقبة السوفييتية السابقة، والتي كما قلنا خلقت نوعاً من السلم العالمي بسبب التكافؤ في القوى السياسية والعسكرية، وعندما ضعف هذا العامل رأينا التفرد الأمريكي في قرار السلم والحرب.
نتائج توازن القوى بين أمريكا والاتحاد الروسي رأيناها واضحةً في الأزمة السورية، فلأول مرة منذ فترة يرفع حق الفيتو أكثر من عشر مرات في وجه قرار تتبناه أمريكا وحلفاؤها في مجلس الأمن ضد سوريا من قبل روسيا، وكذلك هي المرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي التي ترسل فيها روسيا قواتها إلى بلد توجد فيه قوات أمريكية.
هي مرحلة جديدة للانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، ومن أجل حماية هذه العالم لابد من قوة عسكرية جديدة تجبر أمريكا على قبول هذا العالم، والتسليم بأن مرحلة القطب الواحد انتهت، وهذا طبعاً في صالح الدول العربية وغيرها في تبني قضاياها خارج نطاق النظرة الأمريكية التي كانت متفردة في اتخاذ القرارات.
خطاب بوتين أمام جلسة مشتركة لأعضاء البرلمان الروسي، ترجم توجه روسيا الجديد في إبراز إستراتيجية توازن الرعب العسكري، بل فاق القدرة الأمريكية العسكرية؛ حيث تحدث عن تطوير روسيا لأسلحة جديدة منها صاروخ كروز ووصفه بأنه لا يقهر، وكشف عن مجموعة من الأسلحة الجديدة، من بينها صاروخ يمكنه أن "يصل إلى أي مكان في العالم".
كما استعان بفيديو توضيحي، يشير إلى أن الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا وآسيا لا يمكنها إيقاف الصاروخ الجديد.
وسلط بوتين الضوء على اثنين من الأسلحة ذات القدرات النووية، صاروخ كروز وغواصة.. و"أن الصاروخ يحلق على ارتفاع منخفض يصعب رصده، قادراً على حمل مواد نووية غير محدودة المدى مع عدم توقع مساره ويمكنه تجاوز خطوط الردع، وهو لا يقهر أمام جميع الأنظمة الحالية والمستقبلية للدفاعات الصاروخية والجوية".
هذه رسالة موجهة لمن يريد أن يجعل العالم قطباً واحداً فقط يتصرف فيه كيف يشاء، وهذا الأمر أصبح مرفوضاً في عهد روسيا الجديدة، والتي أظهرت جديتها في حماية حليفتها سوريا سياسيًّا عن طريق الدعم السياسي في أروقة مجلس الأمن وعسكريا بالوجود الروسي في سوريا ومساعدتها في محاربة إرهاب "داعش والنصرة" أدوات أمريكا في تفتيت وتقسيم سوريا.
إستراتيجية توازن الرعب العسكري أصبحت واضحة المعالم، وروسيا اليوم هي أقرب لتلك الحقبة التي كانت تراعي موازين القوى بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، مع بروز الفارق في النمو الاقتصادي لروسيا والدعم الكبير الذي يحظى به الرئيس الروسي بوتين، وفوزه بولاية رابعة وبنسبة تتجاوز 75% من أصوات الناخبين الروس ترجمة لنهجه الإصلاحي المقبول شعبياً، وإدراك الروس بأن هذا الرجل هو من سيعيد أمجاد الحقبة السوفييتية، ولكن بحلة جديدة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية مختلفة تماماً عن النهج السابق؛ لذلك كان نجاحه ساحقاً، والنجاح الأكبر كان حسب المراقبين لهذه الانتخابات في نسبة الإقبال العالية والتي فاقت 70%.
توازن القوى العسكرية في المنطقة هو المدخل لخلق عالم متعدد الأقطاب، هذا العالم لا تتحكم فيه أيديولوجية عسكرية واقتصادية واحدة، بل هي تشاركية، والمهم فيها أن قرار الحرب ليس بيد دولة واحدة كما كان في السابق، وهذا التوازن الفاعل في السياسة والعسكرة هو المانع لتسيد دولة واحدة فقط في العالم أمر الحرب والسلم فيها.