شعوب واعية.. وثقافة لا تفسدها السياسة

 

زينب الغريبية

نظل دائمًا نقول إنّ ما يجعل الغرب يتفوق علينا هو وعي الشعوب، التي لا تنجر خلف الخلافات السياسية بدون تمحيص وتفكير، هناك إن اختلف السياسيون لا يختلف الشعوب ولا يقاطعون كل شيء؛ لأنّهم يعون أنّ للسياسة أهدافها ونزواتها التي تتغير بين لحظة وأخرى. وما جرى في الدورة الثامنة والثلاثين من صالون باريس للكتاب يقدم لنا كعرب درسا آخر يجب أن نتعلم منه حتى لا نظل دائما نمضي بدون وعي، نتحزّب لكل موقف سياسي ونخاصم بعضنا البعض، وتتحول كل قطاعات المجتمع إلى أدوات سياسية بما فيها الثقافة.

فوجود روسيا ضيف شرف هذه الدورة في الفترة التي حدثت فيها خلافات سياسية بين الرؤساء، إلا أنّ الكتاب والثقافة لم تتأثر بالخلافات السياسية الدائرة بين كل من الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الروسي بوتين، حيث انتصر الشعب الفرنسي للثقافة والوعي، ولم يجعل الفكر طرفا في الانحياز السياسي، حيث تزاحم القراء بالعشرات للحصول على توقيعات كتّابهم المفضلين الذين آثروهم لا بكونهم روس، إنما بكونهم كتّابا وروائيين، انحازوا للإبداع الأدبي والمعرفة وتركوا ما للسياسيين للسياسيين وأثبتوا أنّهم شعوب واعية لا يمكن جعلها أدوات لخدمة أغراض سياسية، وجعلنا هذا الموقف ننظر إلى ما يجري في وقت الأزمات معنا حيث يُخير الجميع بين موقفين إمّا أن يكونوا مع أو ضد، وبالتالي عليهم أن يتحملوا عواقب ذلك؛ ألا يعبر هذا عن أزمة حقيقية لا يمكن تبريرها بأي سبب كان؟

اصطف الفرنسيون في طوابير من أجل الالتقاء بكتّابهم الروس، رغم مقاطعة رئيسهم ماكرون للجناح الروسي، ورغم محاولته تمييز بعض الكتّاب الروس ممن لديهم طروحات مناهضة لبوتين، إلا أنّ كل تلك المواقف لم تؤثر في جمهور القراء، الذي تفاعل مع جميع الكتّاب المشاركين واحتفى معهم بالثقافة والأدب والتطور الذي طرأ في هذين المجالين في روسيا.. إنها الاستقلالية الواعية التي تجعل هذه الشعوب تحافظ على قوتها فلا شيء يمنح القوة مثل الموقف من الكتب والكتّاب، الذين يؤثرون في العالم الغربي حيث القراءة من ضروريات الحياة، وحيث النشر قطاع حيوي، وحيث الحكومات تتفاعل مع الأحداث الثقافية تفاعلها مع الأحداث الاقتصاديّة، وحيث الكاتب يمثل رمزًا تنويرياً للمجتمع لا خصما له، وحيث تنساب الكتب دون رقابة أو حدود أو رفض لبعض المواضيع.. إنّهما الحرية والوعي اللذان يشكلان وجدان هذه المجتمعات وحضارتها.

تأملت في هذا الموقف وأدركت أنّ المسافة التي تفصل بعض المجتمعات في العالم الثالث وهذه المجتمعات هي مسافة طويلة جدا، فهي قبل أن تكون مسافة اقتصاد وتصنيع تعد مسافة وعي شعبي، فحين يولد الوعي في العقول يولد التقدم في المدن والقرى، وتترسخ القيم الإنسانية بدلا من ترسخ القيم الانتقامية، ويختار الناس مواقفهم دون إكراه أو تضامن غير واع يسلب من المجتمعات أهم ما تملك هو وعيها وحريتها في الاختيار، فلندع لكلٍ شأنه، فالسياسة والتحزّبات السياسية لم توصل الشعوب إلا لطرقٍ مسدودة، حيث لا يلتقون مع أحد.

 قد يقول البعض إنّ السياقات متشابكة، ومترتبة على بعضها البعض، فلا يمكن الفصل بين المجريات السياسية التي نعيش فيها عن بقية مجريات الأمور، إلا أنّ الواقع أننا نستطيع الفصل، فلما نبني مواقفنا على مواقف اتخذها غيرنا، رؤية الغير تمثل مصالح تخصه على المستوى الذي يعمل فيه، ونحن كفئات من كتّاب ورسّامين ومصورين ونحاتين ورياضيين وتجّار وباحثين وغيرها من الفئات المبدعة، لماذا نربط أنفسنا بتفكير سوانا وأهدافه؟ لِمَ لا يعمل كلٌ في مجاله ويستمر مع من يقابله في أي فرع بأي مكان؟ أننتظر من يحدد الخطى؛ ونحن أحرار؟!.