الهروب من عطر الذكريات

مدرين المكتومية

هناك في ركن بعيد من الزمان والمكان المعتادين، وفي تلك الزاوية التي هربت إليها عن وجه أعرفه جيداً لكنّي لا أستطيع الآن أن أتلمّسه، عن ملامح احفظها جيّداً لكنني مضطرة لتناسيها أو ربما لمحوها من الذاكرة، عن تلك المشاريع الطويلة والخطط المستقبلية التي كنا نرسمها كخارطة طريق لحياتنا، في تلك الزاوية التي تخليت عنها لأجله، أجدني خائفة من أن يكون للصدفة طريق آخر يرسمه القدر لي، رحلت بعد صراع مطول مع النفس لمكان لا يمكن أن أشتم فيه عطره أو بقايا من تبغه.

ذلك الرحيل هو الخيار الذي يقرره الكثير من الجبناء حين لا يجدون للوصل قيمة ومكانة.

في كثير من الأحيان نختار الهرب والتنصل من المواقف والذكريات التي تشعرنا بالألم لا لشيء بل لأننا للحظة فقدنا الأمل في تغيير تلك التفاصيل المزعجة؛ وربما في جعل كل لحظة بمثابة حياة لا تتكرر، وتلك الحياة يمكن تلخيصها بالأزمنة والأماكن والشخوص.

وعندما قررت أن أكتب عن الذكرى أراها وأشعر بها مرهونة ومعلقة على اسم شخص واحد أحبه، رحل هو عنّي أو رحلت أنا عنه.. أو هربنا من أنفسنا إلى المجهول.. لكن تبقى رائحة الذكرى تفوح في الأماكن وتلوح في الرأس وترتاح في القلب فتسري في الجسد قشعريرة.

وكأنّ نسمة باردة معطرة مرّت لا تعرف إذا كانت باردة يجب أن تتدفأ بعدها.. أو هي في الحقيقة تملأ روحك بالدفء.

ليس بالضرورة أن ترتبط الذكرى بمن نحب وإنما هي شيء أوسع نطاقاً وأشمل في المعنى، فهي ترتبط في كثير من الأحيان بأمكنة تمثل الحيّز والجانب الأكبر من الذاكرة والحياة، كوننا سجلنا فيها أهم ما عايشناه من لحظات، وأجمل أيام العمر دفعناها ثمناً لتلك اللحظات ولا أسف أن تضيع الأشياء القيمة في لحظات نعتبرها أجمل ما نملك عندما نجتر حلو تلك المواقف.

كنت قد عاهدت نفسي أن أنسى تلك الأحلام الحلوة، حاولت وتخيّلت أنّي قد نجحت ونسيت.. إلا أنّ كل ما حدث أنّها اختبأت في زاوية من الروح لكنّها لم تختفِ أو تذهب طي النسيان.

 بالأمس ساقتني أقدامي إلى مكان يفوح بعطر ذكرياتي، جلست لأرتشف القهوة المعتادة، وما إن جلست على الكرسي حتى لمحت ذلك الوجه، شريكي في ذكريات المكان يجلس بالقرب منّي، هذه المرة لم يكن وحيداً، كانت معه فتاة؛ أظنها افتتنت بذات القهقهات والكلمات التي يعرف كيف يسحر بها من يجالسه، في ذات اللحظة التي استدارت عيناي عنه فعل ذات الموقف، وهممت بأن أغادر المكان إلا أنه سبقني لأخرج بعده، وفي نفسي تعهد ألا أعود لذلك المكان مرة أخرى وأن أكتفي بما تختزنه روحي من ذكريات.