الأثر الفكري للنكت

فيصل الكندي

ما إن تحل الساعات الأخيرة من الأجازة الأسبوعية أو الرسمية حتى تبدأ مواقع التواصل الاجتماعي تدخل في حالة من الهيجان والانفعال، وتسخن غرف المحادثة والمجموعات بتبادل رسائل العودة للعمل بطريقة تعكس مدى الأسى والشكوى الذي ينتاب الموظفين والعمال تجاه العودة للعمل من باب المزاح والفكاهة، ولكن نسي هؤلاء أو تناسوا أن ما تَكَرَّرَ تَقَرَّر.

وحتى نقنع أنفسنا بأن "النكتة" أسرع وسيلة لغسل الأدمغة، وأكثرها دمارا للفكر الإنساني، علينا أن نُرجِع أنفسنا للوراء إلى فترة أيام الاستعمار البريطاني عندما علموا بأن الصعايدة ذوو نخوة وقوة وثبات، وأرادوا حينها كسرهم، فبثوا نُكتاً تسخر من غبائهم حتى رسخوها فيهم وفي أجيالهم، واليوم عندما يذكر لك صعيدي يتبادر لذهنك أنه شخصية غبية وسطحية.

إن الفرد الذي يرسل لأصحابه صورة حزينة مكتوب عليها "بكرة إيش؟!"، هو بهذه الطريقة يغرس النظرة السلبية في أنفس الآخرين تجاه العمل، من حيث لا يدري؛ فقانون الجذب الذي لا يعلم عنه الكثيرون يقوم على فكرة أن مجريات حياتنا اليومية، أو ما توصلنا إليه إلى الآن، هو نتيجة لأفكارنا في الماضي، وأن أفكارنا الحالية هي التي تصنع مستقبلنا.

ولا يقتصرُ الأمر على الكبار فقط، بل يتم غرس هذا الفكر "الدخيل" في قلوب الطلاب والطالبات بطريقة غير مباشرة، حينما نظهر هذا الأمر أمام الأبناء، فنورثهم هذه النظرة السلبية تجاه العمل، وتكتمل الصورة حين يُرسل أحدهم صورة لطفل حزين أو طالب يبكي وهو يحمل حقيبة مكتوب تحتها "العودة للمدارس!!"  كذلك من باب المزاح، فيراها الطفل، فتتحرك ثعابين الكُره في قلبه، فيحس منذ نعومة أظفاره بأن المدرسة عبارة عن معتقل كبير وجلادوها هم المدرسون!

هناك من تجاوز الحد في إصدار النكت بتمثيله مشهداً لجماعة يصلون، ثم يقومون بحركات بهلوانية أثناء الصلاة، نعم هذا لا يوجد في بلادنا ولله الحمد، ولكن هناك من ينشر هذه المقاطع بين أقاربه وزملائه من باب المزاح، فينغرس في النفس الاستهانة بالدين، وأنه لا مانع من عمل نكت في الدين من باب الترويح عن النفس، فيهون في قلوبنا، وتمر من أمام أعيننا هذه المشاهد ولا ننكرها، بل نضحك ونبتسم ونرسلها للآخرين دون وعي، لا لشيء إلا أنها أصبحت من المُسلَّمات.

الإسلام لا يُحرم الابتسامة، ولكن يجب أن تكون على قاعدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يبتسم ويمازح أصحابه، ولكن لا يقول إلا حقا، أما نشر نكت المحششين، ونكت تنال من جنسية معينة، أو نكت غير صحيحة عن البلد أو عن المواطنين فيه، فهذه كلها تندرج تحت النكت الكاذبة التي ليس لها أساس من الصحة، والتي نحن لسنا في حاجة إليها أصلاً؛ فتراثنا الإسلامي زاخرٌ بالقَصَص والمواقف الحقيقية التي تجعلنا نبتسم ونضحك، وكذلك عصرنا الحديث مليء بالأحداث المضحكة، فلماذا نلجأ للكذب لإضحاك الآخرين، والله سبحانه وتعالى يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ"، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ويلٌ للذي يحدِّثُ بالحديثِ ليُضحكَ بهِ القومَ فيكذِبُ، ويلٌ لهُ، ويلٌ لهُ".

... إنَّ ما تكرره اليوم أمام عينيك، أو من خلال سمعك أو خيالك، يتحول إلى عقيدة تتمسك بها، وتنطلق إلى الحياة بهذا الفكر؛ فالدماغ لا يفرق بين الحقيقة والخيال، فما نتحدث عنه اليوم حتى ولو كان من باب المزاح والضحك يتحول إلى عادة نمشي عليها، فهذه النكت العابرة تجعلنا مُتساهلين في القضايا، مستهينين بوطنيتنا وانتمائنا، ويجعلنا متواطئين مع المحششين وأصحاب الجرائم في المجتمع؛ بسبب ضحكنا لمجرد سماع النكت المنسوبة إليهم، وكأنها تصرفات شخصية لا غبار عليها.

لنقف جميعا صفًّا واحداً ضد كل من يريد أن يجعلنا نشعر بالأسى تجاه العمل أو الوظيفة، وضد كل من يريد أن يغرس فينا القلق قبيل بدء العام الدراسي، وضد كل من ينوي النيل من ديننا ووطنيتنا وبلادنا؛ وذلك بعدم تداول مثل هذه الرسائل والتعامل معها بحزم وجدية، ولنكن سبباً في زيادة وعي المجتمع ورُقيه تجاه هذه النكت، كي لا تتحول إلى قناعات بإظهار مدى تفاهتها وخطورتها على المدى البعيد، ولنُقْدِم على أعمالنا ووظائفنا وطلبنا للعلم بشوق وإخلاص وابتسامة مشرقة صادقة لا تشوبها الأكاذيب.