"نعيب زماننا والعيب فينا"

فيصل الكندي

 

تُروى قصة عن الرجل الصالح الغصين الملقب بـ"جحا" أنَّه كان راكبا حماره وابنه يمشي فانتقده الناس لقساوة قلبه، ثم نزل من على حماره واعتلى ابنه الحمار فتكلم الناس بأن الابن عاق لأبيه، فنزل الابن من على الحمار وصارا يمشيان والحمار خلفهما فتعجب الناس منهما: عندهما حمار ولا يستخدمانه للركوب.. هكذا عقلية الناس، انتقاداتهم لا تنتهي عند حد، وتعلقياتهم لا تتوقف عند مستوى، فهم كما يقول المثل: "يعملون من الحبة قبة".

أصبح الانتقاد شعارَ العصر وفاكهة المجالس، فلا يكاد يَسْلَم منه شخص: الصغير والكبير، الرجل والمرأة، ويا ليت كان هذا الانتقاد بطريقة معقولة كي يتقبلها الناس بصدر رحب، ولكن الأسلوب غير مناسب، وكذلك التوقيت؛ فلا تكاد تدخل مجلسا أو تقابل أحدا إلا ويبدأ في مُحاسبتك ورشقك بالانتقادات السلبية، والشيء المؤسف أنَّ معظم هذه الانتقادات ليست بنَّاءة لأنَّ هدفها الهجوم فقط، وليس إصلاحا للشخص؛ فالإصلاح له شروطه ومناهجه وضوابطه حتى تؤتي الانتقادات ثمارها اليانعة.

على سبيل المثال: إذا فقدت إنسانا لفترة من الزمان، ووجدته في مسجد أو مجلس، فلا تحرجه أمام الناس بالسؤال الهجومي "أين أنت؟ أنت حي؟ لا أحد يراك، هل تعرفني؟"، فأنت بهذا الأسلوب لم تصحِّح المسار، وإنما تزيد الطين بلة، وتزيد القطيعة عمقا، وإنما الأصل أن تقول له بعد أن يستأنس بك: "تفضل معنا، اشتقنا لكم، منذ فترة لم نجلس مع بعض، اعذرونا على التقصير، أنا فلان تربطني بأبيك علاقة كذا"، وتدعوه لشرب القهوة أو تدعوه لوجبة غداء أو عشاء.. هذا هو الأسلوب الأمثل لعلاج قضية القطيعة بين الأهل والأصدقاء والجيران، وليس بالانتقاد الجارح أمام الناس الذي يهدم ولا يبني.

كذلك يُعَاني الكثير من الآباء والأمهات من قساوة قلوب أبنائهم وطبائعهم الشرسة، ويلقون باللوم على الإعلام والمدرسة والبيئة، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن العيب فيهم، فلو رجعنا إلى الوراء، ورأينا الطريقة التي اتبعوها في تربية أبنائهم، لرأينا أنها خاطئة، ولا تتماشى مع التربية الإسلامية، ولا عاداتنا الأصيلة، بل كانت "الحرية المطلقة" هي المنهج المتَّبع لديهم؛ فلا تأديب ولا توجيه ولا تأنيب ولا متابعة ولا تشجيع، والنتيجة ينشأ الطفل مُدلَّلاً حسَّاساً أنانياً انطوائياً، وربما شرساً، فينعكس هذا كله على تصرفاته في الكِبَر فيُعاني منه أهله ومجتمعه، وهل يُصلح العطَّار ما أفسد الدهر!!!!

ولو تعمَّقنا قليلا في خُصوصيات العلاقات الزوجية، لوجدنا أن الانتقادات تكاد تفتك بالطرفين؛ فالزوج ينتقد زوجته في ملبسها غير المرتب ورائحتها غير الطيبة والصوت الرفيع والطلبات التي لا تنتهي وتقصيرها في الطبخ، لدرجة أن الزوج لا يكاد يُحدق في زوجته، ولو بحثنا في تصرُّفات الزوج لربما وجدنا أنه لا يهتم بمظهره، وربما تفوح منه روائح العرق، ولا ينتقي الملابس الجميلة، ويتحدث مع زوجته بصوت مرتفع، ويتضجر من تعدد الطلبات، ولا يُخصص يوما للخروج مع زوجته، ولا يستخدم الكلمات الذهبية للتعامل مع زوجته، ومع ذلك يُطالب بحقه، فأي حق يُطالب به وهو أصلا لم يؤدِّ حقَّ زوجته؟!!! وكذلك بالنسبة للزوجة، عليها أن تؤدي حقَّ الزوج، ثم تتحدث عن حقوقها، فلنعامل الناس كما نحب أن يعاملونا.

واقعنا نحن من يصنعه ونحدد مساره، ولكن نتائجه هي بيد الله سبحانه وتعالى؛ فالمقولة الشهيرة: "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به"، وكذلك "ما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه لغيرك" هي بحد ذاتها منهج حياة إذا طبقناه في حياتنا اليومية لاستطعنا التخلص من الانتقادات السلبية، وسوف تحل محلها الانتقادات الإيجابية البنائة التي تصحِّح المسارات وتجمع الشتات وتلم الشمل، وإن لم نفعل ذلك فستظل كما هي، وستكون سببا للفجوة بيننا، وستزيد المشكلات تعقيدا، وسيصبح حالنا كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا...

وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا

وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ...

وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا

وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ...

وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا