مناجم الذهب (12)

قصر الحصن.. الصبح الأبلج

 

عائشة البلوشية

أحَسَّ بأن هذا اليوم ليس كمثله من الأيام، وجيب قلبه يحدثه بأنه مُقبل على أمر عظيم، لم يكن يعلم بأنه أعظم حدث على الإطلاق، فكان يحاول العمل والانغماس في مهمات عمله اليومية حتى لا يستبطئ الثواني في انتظار أن يدخل عليه من يريح هذا الوجيب، ويقول له إنَّ الأمر كذا وكذا، وتمر الساعات الأولى للعمل ولا جديد، بل إن مما زاد الأمر غرابة أن السماء في ذلك اليوم قد اتَّفقت في مؤامرة قدرية لتتحد مع وجيب قلبه، كان خريف هذا اليوم كأجود ما يكون في ذلك الموسم، يقف أمام باب مكتبه منتظرا حدثا ما، ويتساءل: ماذا هنالك؟ لماذا هذا الأزيز في داخلي؟ ماذا عساه أن يكون؟ إنه ليس موعد ولادة زوجتي بعد، إذن ما الأمر؟! ويتصفح وجه السماء ويراه مستبشرا متهللا، وكأنه يقول اصبر قليلا وستجد الإجابة، وما هي إلا لحظات إلا وتم استدعاؤه، وأعطي الأوامر لمهمة سرية أعطت التفسير لهذا الأتون المتقد بين أضلعه منذ فجر هذا اليوم، ليزداد الأتون اشتعالا، فتتقد همته بعزيمة هي أضعاف أضعاف ما يمكن أن يتحمله من كميات الأدرينالين في دمه، ليتحرك هو ومن تم اختيارهم لهذه المهمة الرائعة، وتتحرك سيارتا اللاندروفر بمن فيهما نحو معسكر الحواسنة ومنه إلى قصر الحصن، وهناك تم إسناد المهام بحسب الاختصاص لكل شخص -رفاقه الاثنان سعيد بن جيح وخلفان بن سالم المعمري- لتنبلج السماء عن أعظم البشارات وأغلاها.

إنها الساعة الثالثة والنصف من عصر يوم الثالث والعشرين من يوليو من العام 1970م، لبست ظفار فيها أجمل حللها الخضراء القشيبة، وتزينت فيها بأبهى ألوان الجواهر من زبرجد عشبها، وماس رذاذها، وفيروز سمائها، وعقيق طينها، وكهرمان حصبائها، وعبقت باللبان الحوجري أركان قراها، فانتشت بجميل البشر الأجواء، وراقت بعظيم القادم الأرجاء، وخرج عليهم في الخامسة والنصف عصرا السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور المعظم، ممتشقا سواد بشته، معتمرا سؤدد سيفه، ليصل إلى مكتب والي صلالة الشيخ حمود بن حمد الغافري، ويبلغه بأنه استلم سُدَّة الحكم في عُمان، مائة وعشرون دقيقة هي تكَّات عقارب الساعة، ولكنها كانت دقات قلوب شعب كامل انتظر هذه اللحظات من التسليم والاستلام لمقاليد الحكم، كانت هاتان الساعتان مدة زمنية كفيلة بأن تجعل من كهرباء العشق المكنون تسري في أسلاك قلوب الشعب، لتهتز الأرض حمدا وتربو شكرا لهذا الخبر البشارة، فيتوافد الناس مُستفسرين حول الحصن وعند مدخل السوق عن صدق النبأ العظيم، فقيل لهم بأن ما وصلهم هو خبر أكيد، وما إن رأوا سلطانهم الجديد يخرج من مكتب الوالي، مشيرا إلى جنده بأن أزيلوا الحواجز العسكرية بيني وبين شعبي، حتى تراكضوا والفرحة تسبق قلوبهم إليه، وزغاريد نسائهم ترفرف كعصافير الفجر نحوه، فحملوه على الأكتاف سعدا وبشرا، وهنا تدخل هذا الجندي الذي كتب الله له لأن يكون أول الشهود على ولادة حقبة تاريخية جديدة على بلاده الغالية هو وزملاؤه، مطالبين هذا المد الهائل من الحماس العاطفي العاشق بجعل سلطانهم الحبيب يمشي على الأرض، فاستجابوا وهم الراغبون أن يفترشوا الأرض بأهداب العيون لهذا الأمل المطل عليهم من سماوات الدعاء، ثم يقف جلالته -حفظه الله ورعاه- أمام باب منزله، ويلقي أول خطاب تاريخي له، فتمر كلماته كألذ من الماء البارد على الظمأ في أرواح مواطنيه، فتتعلق شغاف الأفئدة بكل حرف منه، ويعدهم بأن فجرا جديدا سيشرق على عُمان، ليعم في هذه الأثناء خبر اعتلائه العرش جميع أرجاء المعمورة، ويتناقل أثير الإذاعات الخبر حول العالم.

لم تكن لدى جندي حلقاتنا الكاميرا حينها؛ وذلك بسبب التزامه بمهمته المنوطة به في ذلك اليوم الأغر، لكنه حرص في الأيام التالية وبعد انتقاله من قيادة أم الغوارف إلى مقره الجديد في "بوابة السدة" على التقاط الصور بكاميرته الصغيرة والكاميرا السينمائية؛ وذلك لأن الحدث أكبر من الوصف، والسعادة أبلغ من التصوير، أصبح هذا الجندي بعد انتقاله حلقة الوصل بين قيادة أم الغوارف وأي اتصالات أخرى؛ حيث لا أجهزة هواتف حينها يُمكن الاعتماد عليها للتواصل أو نقل الأخبار؛ وخلال الأسبوع الأول على الحدث كانت القبائل والوفود تتقاطر إلى قصر الحصن تترا لتعبر عن سعادتها الغامرة بالهبوت والفنون والأهازيج المختلفة، ثم غادر جلالته إلى مسقط في تمام الثانية عشرة من ظهر يوم الثلاثين من يوليو 1970م، والقلوب تلهج قبل الحناجر، داعية له بالتوفيق في كل قول وفعل، ومن الجدير بالذكر أن مسار السيارات في الطرقات في هذا اليوم بالذات قد تحول في السلطنة من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وكأن جلالته -أبقاه الله- أراد أن يشير إلى التحول الكلي من الآن فصاعدا في مسار السلطنة الحديثة؛ ويصل جلالته ويباشر العمل الدؤوب والمستمر في سباق مع الزمن، ليعمر ويبني بلاده، التي فاتها الكثير، وأمامه كسلطان شاب الكثير والكثير من العمل؛ فشمال البلاد تشق معاول التفرقة بين قبائله المتناحرة، وجنوبها يئن من ويلات الحرب الضروس، والبلاد برمتها قد أحاطتها أسلاك العزلة الشائكة عن أدنى مقومات التمدن والتطور، فهرب أبناؤها إلى مختلف البلاد لينأوا بأنفسهم عن التخلف والجهل؛ لذلك تصبح مهمة بناء نهضة شاملة أمام هذا السلطان تكاد تكون مستحيلة، لكنه طوع عقبات المستحيل وحولها لتحديات الممكن، لتصبح سلالم يرتقي ببلاده نحو المجد عليها، فاستدعى الأبناء من دروب الغياب والمهجر، واستعان بالسلام ليحمي البشر والمدر من سفك الدماء، ونشر العلم ليبني الوطن بأيدي الشيبة والشبيبة، وسخر الدواء لينتشل الأجساد من براثن الأمراض والأوبئة، وعمر المحطات لترسل النور إلى كل دار، وشغل المولدات لتضخ الماء في كل منزل، وهكذا دارت عجلة التنمية بتسارع أذهل القاصي والداني، لتنتهي الخلافات في الشمال، وتحط الحرب أوزارها في الجنوب، في غضون سنوات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة منذ توليه زمام الحكم في عُمان.

-----------------------------

توقيع:

"مع شوفته نشوة وفزّة وتخدير... وعيون خلاّن (ن) تعانق نظرها

يفزّ له قلبي كما فزّة الطير... والرجل كن اللي تحتها غدرها

يا صبح عمري يا صباح التباشير... نوره ملا قلبي وروحي غمرها"

(سمو الأمير خالد الفيصل)