الزبيدي.. الثابت في وجه عاصفة الأوراق

د. سيف المعمري

لم يكن الروائي والكاتب أحمد بن عمر الزبيدي غريبا في مجتمعه، بقدر ما كان المجتمع غريبا على الزبيدي، والغرباء يخافون من الاقتراب؛ لأن الاقتراب يسمح لكل طرف بأن يتعرف على الآخر بشكل أكثر وضوحا، تلك المعرفة تحمل الكشف عن التفاصيل والأسرار والمواقف التي قد لا يتحملها أحد إن كانت من مبدع مثل الزبيدي الذي ناضل من أجل أن لا تعدم فراشة تحمل جناحين حين يخفقان برقة تتحرك مياه المحيط.. ويقفز الرجال على ظهور خيلهم فوق قمم الجبال الشاهقة من أجل القفز وامتطاء موجة لا يكترثون إلى أين تقودهم، فهم جيل تعود أن لا ينحني لعاصفة، وتعود أن لا يهاب المخاطرة.

جيل وصفه الزبيدي في اللحظة الاستثنائية الوحيدة التي سعى إليه المجتمع الغريب للتعرف عليه بأنه "جيل المواجهات وجيل الأحلام وجيل الانتماء إلى الوطن وجيل الأفكار وجيل القضية"، لخص بهذه الكلمات مفاتيح القوة التي يحتاجها أي مجتمع الوقود الذي يحرك الهمم، الإرادات التي تحمل الأفكار والمشاريع، وترقى بالوطن الذي جعله الزبيدي حلما كبيرا يتطلب الوفاء للتاريخ والذكريات والإنسان، ولكل التفاصيل البسيطة التي ارتسمت على وجوه الكادحين والمغتربين، والبسطاء الذين كانوا ولا يسألون يبسطون أمنياتهم المتواضعة مع كل صباح.

رحل الزبيدي ولم يحسم كل المواجهات التي خاضها طوال عمره الاثنين والسبعين.. ما أقسى أن يرحل الإنسان وهو لم يقل كل ما ود أن يقوله، خاصة إن كان ما يود قوله هو حول القضية التي عاش منعزلا بإرادته من أجلها؛ مما أقلق كثيرين بهذه العزلة، التي آوى فيها إلى نفسه، وما مرت به وكانت شاهدة عليه، ومضى يستنطقها لتقول ما لم يُقَل ولن يقال إلا من الزبيدي الذي خبر جيله، أكثر مما يمكن أن يعرفه  جيلنا، جيل فهم بعضه البعض، واطلع على الأسرار والمواقف، ويعرف إجابات عن الأسئلة الغامضة التي صاحبت البدايات.. إنه التاريخ الذي لا يمكن أن يظل صامتا، وهناك من يعلمه الكلام.

الزبيدي كان بارعًا في استنطاق الأحداث وبناء الذاكرة بتفاصيل مختلفة؛ لكي ينقل لنا كفيل عُماني مرحلة مهمة عاشها أجدادنا وآباؤنا لا يمكن أن تُنسى، تتطلب أن نتعلم منها قيمة الأفكار في بناء مجتمع واع قادر على حراسة نفسه وكنوزه وقيمه، وقبل ذلك قادر على حماية الأمس من أن يُشوَّه ويُزيَّف. ويصبح المحركون له غرباء والغرباء محركين، ويمضي التضاد فيه لكل شيء حتى لا يكاد يتبين الشيء من ضده. عندها تظهر روايات الزبيدي لتحرك المياه الراكدة في بحيرة الأمس الراكدة، وكل ما يفهم عن الأمس يساعد في بناء الغد، كيف يتبين جيل السبل دون أن يعرف من أين نتج هذا الواقع بكل تفاصيله وجوانبه الإيجابية أو السلبية.

رحل الزبيدي بصمت.. ولم تُعلن نشرة الأخبار نعيَه كما يحصل في دول أخرى في العالم، ربما لأنه يُعَد غريبا، كما يَعُد هو المجتمع غريبا، ربما لأنه انتحر في شخصية عبيد العماني، وتأخر إعلان موته حتى الأسبوع الماضي، ربما لأنه لم يمُت إلا جسدا، أما فكرا فسيظل يعيش في كل الروايات والكتب التي أراد لها أن لا تموت حين يموت به؛ ربما لأنه ليس محبوبا لدى البعض، ربما لأن موته كان صدمة للوسط الثقافي الذي أصر الزبيدي على القطيعة معه أكثر من غيره، نتيجة ضعف استقلاليته التي تؤثر على الرسالة التي يحملها، هذا الوسط الذي كان عشية وفاة الزبيدي يمرُّ بانكفاء كبير على مختلف المستويات، فلا خطوة تُحسب للإمام.

وما أكثر الخطوات التي تحسب للخلف؛ فهل كان الزبيدي على يقين من ذلك حين أصرَّ على الانعزال الطوعي عن وسطه الثقافي؟ ماذا خسر الزبيدي من هذه العزلة وهو قد كتب كما لم يكتب الآخرون؟ وهو الذي كسب استقلاليته في زمن خسر كثيرون موضوعيتهم واستقلالهم؟ ما أكثر الأسئلة التي سوف تثار حول هذه الشخصية التي رغم عزلتها ملأت الدنيا وشغلت الناس، وخلدت وجودها في كتب وشهادات لن تُنسى.. فالخلود للكلمة والحقيقة حين يُنفى كل شيء.

لقد قال الروائي جابريل جارسيا ماركيز: "يكفيني أن يتذكر أحد عبارة لي لكي أنزل إلى قبري مستريحاً قرير العين"،  ووفقا لذلك يبدو أن الزبيدي سيكون قرير العين؛ لأن كتاباته ورواياته ستظل أجيال تتذكرها وتستخدمها كمفاتيح لمعرفة القصة الكاملة التي لم يُروَ إلا بعض إجزائها حتى الآن، كما سيذكر الكتاب وصيته لهم  "الكاتب لا يخون الكتابة"؛ لأن الكتابة رسالة ومسؤولية وقضية من أجل عالم أجمل، ومن أجل إنسان يتلمس طريقه للغد بوعي ومعرفة.