قصة قصيرة: ظل الجنون

ناصر سالم الجاسم - السعودية


طاقة الشمس تنمو وكل شيء في الجسد ينمو إلا الروح.. أرض الصحراء تَسخن وتُسخّن الهواء الجاف معها.. طيور الصحراء تركب التيار الحراري.. تطير من دون أن تحرك أجنحتها.. الأغنام السمار تستريح من الرعي متقاربة لتبرد فراشها الأصفر.. جلستُ قرب الأغنام على الرمل يكوي عجزي.. أخذتُ أغسلُ أوساخ جسدي بالضوء الحارق وجهي.. الرغو السافح من فمي غذاء جعل الذباب يأكل منه متزاحما على زاويتي فمي.. العقل والجنون يتعاركان في رأسي.. بقايا لحم مندسة بين أسناني لم تطرد والصفار على الأسنان علامة.. كاشفت نفسي: من يحتضن المجنون غير الشمس والبرد والوسخ؟! حدثتني نفسي بأنها ستأتي تقدم نفسها قرباناً للشمس.. رأيت ظلي وظلها ممتدين أمامي.. كان ظلها أطول من ظلي فأيقنت أنها واقفة خلفي.. قلت في نفسي: ظل الأنثى في النهار أبدع من ظلها في الليل، الأشياء الجميلة والأشياء القبيحة تتساوى في كمية الظل، جنون النفس يشوه الوجه وجنون العقل يشوه الجسد كله..
كيف أعرف أن الجنون شوّه وجهها الجميل؟ هل يمكنني أن أرى التشوه في ظل وجهها؟ بغيض أن يرى الإنسان ظل الإنسان ولا يرى الأشياء نفسها.. لا بأس.. ما دمتُ أرى ظل صدرها فبالتأكيد أنها ما تزال واقفة.. فلو رأيت ظل شعرها فبالتأكيد أنها مشتْ.. كان ظلها دامعاً.. الأنثى كثيرٌ بكاؤها في الظل.. لو استمرت الأنثى تبكي في الظل ستموت.. فالدموع من الماء والإنسان بالماء يحيا.. ستعطش وليس حولها ماء.. والسراب مجنون لا يصدق.. فكرة البكاء سوياً مع الأنثى فكرة مبكية.. هي الآن واقفة خلفي فلو بكيتُ لرأتني في ظلي أبكي.. سيكون ظلا باكيا تحفظه ذاكرة الصحراء وتشهد عليه الأغنام السمار.. تُرى هل تشي بنا الأغنام إلى الراعي الذي تركها وراح ينام في المدينة؟ الحيوان لا يصاب بالجنون، والوشاية جنون صغير.. كم هو شقي من لا يبكي!.. لِمَ لا نخصص وقتاً للبكاء؟ نحن رجال لا نعرف كيف نتطهر بالبكاء.. الأنثى بارعة في التطهر بالبكاء.. تُرى ممَ تتطهر الآن؟! وماذا لو تحول بكاؤها إلى وباء؟ هل سأصاب بالعدوى؟ إنني محصن ضد البكاء وضد الفرح، أما الجنون فلم ألقح ضده. قال عقيل: رؤيا المجنون لقاح له أعراض جانبية ومضاعفات كثيرة.. والدليل جنون كثير من أطباء المجانين.. لقد جُنّوا بالمعاشرة.. لو كان عقيل معنا الآن لسألته: أيُعدي جنون الأنثى؟ ولكن عقيلاً مشغول بإجراء بحث عن تأثير الجنون على سلامة اللغة.. عقيل سمى هذا العام  بعام الجنون..
كان من ضمن النتائج التي توصل إليها عقيل: أن لغة المجنون أغلبها مفردات حب وقليل من المفردات البذيئة نسبتها تغفل وتهمل في معيار الدارس .. إذاً لا خوف على اللغة من المجانين ما دامت مفردات لغتهم أغلبها مفردات حب، فالحب يرقى باللغة وأشعار المجنون في ليلى شاهد إثبات حيّ..
ما بال ظلها لا يتحرك ودمعها لا يقف؟.. قال عقيل والمأتم قائم: الحركة والسعي يوقفان الدمع.. كيف أحرك الأنثى وهي خلفي؟! كيف أحركها وزجر الباكي منهي عنه؟.. الزجر يزيد البكاء بكاءً.. يؤلمني تحرك دمع الأنثى أكثر من سخونة الأرض.. سأطفئ حرارة الأرض بمكوثـي عليها ولكن بماذا أطفئ دمع الأنثى؟ لِمَ يا عقيل لمْ تُجرِ بحثك عن وقف دموع الإناث لكنتَ جئتني بحل؟! ألا تعرف يا عقيل أن دموع الأنثى تجبر الرجل على الصدود؟.. قدّر جُبني وضَعفي يا عقيل.. انظرني وأنا أتفرج على دموعها في الظل وعملي الوحيد هو مراقبة وجهها والاستمتاع متألما بجمال ظل صدرها وأتحرى رؤية شعرها.. استبدل بحثك يا عقيل وتحرك وجدّ فيه حتى لا يتسخ صدرها ويخرب شعرها.. ابحث وأنا سأعمل بنتائج البحث.. بحوث الأصدقاء للأصدقاء نادرًا ما تخطئ.. لو كانت الدماء تجري في عروقي بصورة طبيعية لكنتُ وقفتُ وأخذتُ بيدها وسعينا في الصحراء.. كنت سأمشي العمر بها حتى تجفّ دموعها وسيكون ظل وجهها مرآتي للتأكد.. أنا لا أستطيع النظر إلى وجه أنثى تبكي إلا في الظل.. بكاء الأنثى مادة غنية للبحث.. بحثي الآن يا عقيل أوصلني إلى أن بكاء الأنثى يبعث على اشتهائها، ولكن ليس كل أنثى إنما بكاء الأنثى التي نحب.. هأنذا أتعلم البحث من معاشرتك ولكن بحثي عقيم كعقم هذه الأغنام السمار..
الأغنام تحركتْ حين أقبل عليها الراعي، وما زال عقيل يبحث وظلي وظلها ممتدان.. هي واقفة خلفي وأنا جالس أمامها..
***

تعليق عبر الفيس بوك