علي المعشني
حين طافَ أحدُهم بالماء على جرحى من معركة اليرموك وهم يحتضرون من آلام الجراح وشدة العطش، قدم كل منهم الآخر حتى توفاهم الله شهداء جميعهم، كنت أتساءل ببراءة الأطفال: لماذا لم يشرب أحدهم الماء ليبقى على قيد الحياة، بدلًا من وفاة ثلاثتهم؟! ففهمت لاحقًا أنَّ فعل أحدهم كهذا يُسقط قيمة أخلاقية عظيمة وهي الإيثار، هذا الإيثار الذي سقط من حياتنا المعاصرة، ومعه جملة من القيم التي كانت تعادل النفس لدى أقوام قبلنا، والأمثال هنا لا حصر ولا عد لها.
في صبيحة يوم من أيام عام 1982م، اتصل راشد الخاطر سفير دولة قطر بتونس هاتفيًّا ليُخبرهم بأنه قرر إنهاء حياته بالانتحار كتعبير شخصي عن حزنه الشديد لاجتياح العدو الصهيوني للعاصمة اللبنانية بيروت، وسط صمت عربي مُطبق أقرب ما يكون للمباركة والترحيب، وطلب منهم نشر الخبر ونفذ ما قاله لهم.
الله وحده من يعلم بالوضع النفسي والقناعة العميقة لحظتها، والتي أوصلت راشد الخاطر إلى اتخاذ قرار شخصي يُنهي حياته، والله وحده من يعلم لماذا وصل راشد إلى نقطة اللاعودة، وعدم القدرة على مواصلة مشوار الحياة بعد تلك اللحظة!
في حياتنا الكثير من الشواهد والظواهر والشخوص التي تفوق قدراتنا التحليلية في تشخيصها وتوصيفها وفهمها؛ حيث نلجأ إلى الخرافة والأسطورة لتفسيرها لنرضي فُضولنا المعرفي فقط، ومن أهم مظاهر وأدوات الخرافة والأسطورة اليوم هي التسطيح والتشبيه والاستعارة وأحكام القوالب الجاهزة لنهرب من عناء إعمال العقل ونتائجه واستحقاقاته.
هناك أناس في حياتنا في حقيقتهم رسائل عظيمة على هيئات بشرية، وشموع قصيرة العمر، لكنها طويلة الأثر، تظهر لنا على أشكال شخوص، ولكنهم أمم وأوطان وأقوام متنقلة، وسلل حافظة للقيم العميقة غير القابلة للمساومة أو التقادم. هؤلاء في الغالب يرحلون سريعًا من حياتنا ليتركوا الفقد والحيرة والسؤال لأولي الألباب؛ ففي حياتهم رسالة أشبه ما تكون برسائل الأنبياء في التذكير وغرس القيم.
اليوم.. رحلت عن حياتنا فاطمة المجرفية (فاطمة الزهراء)، دون طقوس أو مراسم، أو حتى سابق إشعار أو استئذان، كعادة الضيف في حياتنا العادية، رحلت في ربيع عمرها ولم تنتظر الفصول الأخرى، وكأنها أحبت هذا الفصل ليكون خاتمة لحياتها، كم أكره أن أذكر محاسن الموتى ما لم أتمكن من ذكر محاسنهم أحياء، ولكن الزهراء عرفتها بعد الرحيل وستبقى معي ما حييت؛ لأنها رسالة وأثر وقيمة عابرة للمقابر والأجيال؛ فالاستثنائيون في الحياة مبدعون بفطرتهم حتى في اختيار وتحديد مصائرهم وطرقها وتواقيتها، وكأنهم شركاء في القدر وصُنَّاع ماهرون له.
يكفي أن تختار فاطمة اسمها التعريفي في المقالات والخواطر والتغريدات (فاطمة الزهراء)، بدلالته الروحية ومكانته الأخلاقية العظيمة في نفوس المسلمين الأسوياء على مر التاريخ، أكمل نساء الخلق وأعظمهن عند الله. لندرك عمق ودلالة رسالة فاطمة المجرفية في الحياة تجاه أمتها وقضاياها المصيرية ومكانتها المسلوبة، تلك الأمة التي أصبحت وتحولت إلى فاطمة الزهراء لاحقًا.
لا أعلم كيف لفاطمة ابنة الـ19 عامًا، وزمن البرجر، أن تزهد في كل ما حولها من مغريات وملذات وصنوف ثقافة الأفيون والعصا، وتختار الوطن العربي لتحمله بكل وجدانها ومشاعرها، وكيف لها أن ترحل قبل اكتمال موسم قطف العنب وقتل الثعابين؟! لا يُمكن للزهراء أن تغوي أو تنهزم أو تنكسر على الإطلاق؛ فاليقين الأرجح بالنسبة لي أنها رحلت بعد أن تيقنت بأن النصر قادم لا محالة، وكتعاقب الليل والنهار، وأن الأقصى لن يذرف الدمع بعد اليوم.
بقدر حُزني على رحيل فاطمة الزهراء، بقدر زهوي وفخري بأن عشت في زمن فتاة زهراء من عُمان، تُشبه عُمان إلى حدِّ التطابق، بأصالتها وعروبتها وعطائها ونخوتها وفزعتها وإيثارها، وبقدر يقيني بأن فاطمة الزهراء لم ترحل إلا بعد أن اطمئنت على انتصار أمتها وعدالة قضاياها، فقد بلغت فاطمة عمرها الأقصى بعد أن أدركت أن عشيقها الأبدي "المسجد الأقصى" في مأمن من الشرور؛ لأنه في عين الله.. فلسان حال فاطمة الزهراء كأنه ينطق بقول الشاعر:
وإذا العناية لاحظتك عيونها...
نم.. فالمخاوف كلهن أمان
نامي قريرة العين أيتها الزهراء في زمن الجدب، فلن يُنكر شراع الحق الإبحار نحو وجهته، ولن يمل النخل العربي وقفته بانتظار الحق العربي والنصر العربي. نامي أيتها الزهراء، فالعظماء لا يموتون، بل يحلقون عاليًا إلى حين.
رحم الله فاطمة الزهراء، وغفر لها، وجعل مثواها مع الأصفياء والأطهار من عباده.. إنه سميع مجيب.. وبالشكر تدوم النعم.
--------------------------
قبل اللقاء: "أسوأ رحيل: من يرحل عنك، ولا يرحل منك".
Ali95312606@gmail.com