جمال الكندي
خلقت لنا الأزمة السورية صراعا جديدا قديما بين الاستراتيجيات العسكرية والسياسية في العالم، فأصبحت سوريا ساحةً لحرب عالمية مصغرة، هي أكبر من الحرب الباردة وأصغر من المواجهة العسكرية الشاملة بين القوى العظمى في العالم إبان الحرب العالمية الأولى والثانية.
قدر سوريا أن تكون هي الجغرافية المتنازع عليها لتحقيق أهداف لعبة السياسة الماكرة، التي لا أخلاق ولا قيم إنسانية تحكمها، والسؤال المطروح دائماً ماذا نكسب إذا فعلنا كذا وماذا نخسر إذا لم نفعل كذا؟؟ فالفعل بحد ذاته يقاس بمقياس المصالح السياسية سواءً كان صحيحاً أو كاذباً، المهم أن يوظف في خدمة التوجه السياسي العام في هذا البلد أو ذاك.
بالمقابل مهما كان الدمار والتخريب والقتل واستخدام كافة أنواع الأسلحة المحرمة دولياً من قبل دولة هي حليفة لدولة كبرى وتتناغم معها سياسياً وعسكرياً، فهو دفاع عن النفس، وإذا زاد الأمر ولا أقدر أعطيه التغطية القانونية إن عليه ملاحظات، ولكن لا تستدعي قيام مجلس الأمن بعقد جلسات طارئة لمعاقبة مرتكبه. إنّها السياسة القذرة ولعبة المصالح، وآخر ما يهمها صرخة طفل هنا أو هناك، المهم هذه الصرخة هل نستفيد منها أو هي عكسية علينا، وأطفال اليمن شاهدُ على ذلك، فأين مجلس الأمن وأدواته مما يحصل في اليمن منذ ثلاث سنوات وكل ما نراه هو صمت القبور؟!! والسبب معروف.
في المقلب الآخر، في سوريا هذا البلد الذي أرسل إليه آلاف الإرهابيين لتفتيته إلى دويلات تخدم السياسة الغربية عسكرياً وأمنياً واقتصاديا، نجده كلما تقدم للقضاء على هذا الوجود المسلح من أجل وحدة سوريا وبقائها تحت علم واحد فقط؛ تفبرك ضده الدعايات الكاذبة باستخدامه السلاح الكيماوي.
هذا طبعاً يحدث بعد كل تقدم ميداني يحققه الجيش السوري وحلفاؤه، فالقضية عند من صنع هذا الإرهاب الذي يضرب الدول العربية تباعاً هي المصالح السياسية والعسكرية، فحينما تقع المصالحة نجد هذه الأدوات تشتغل سواءً كانت إعلامية أو عبر القنوات السياسية في أروقة مجلس الأمن وغيرها، والذريعة جاهزة حقوق الإنسان ونصرة المظلومين، والسؤال الجوهري والذي لا نجد له إجابة عند أمريكا وحلفائها أين حماسكم في مواطن يذبح فيها الإنسان، ولا أقول العربي أو المسلم أقول الإنسان ولا تتحرك أدواتكم الإعلامية ومجلس أمنكم، والجواب عندي وعند غيري معروف وهو غائب عندكم إنّها المصلحة السياسية، وكيفية وتوظيف الحدث ليخدم الأجندات المرسومة لهذا البلد وذاك.
من هنا ندرك ماذا يحدث في الغوطة الشرقية اليوم، فهي باتت آخر أوراق أمريكا وحلفائها لإمكانية تقسيم سوريا بعد فشل مخطط الشرق السوري، ومن قبله حلب، لذلك القوى المعادية للحكومة السورية تحاول وبكل طاقاتها عدم تمكين الجيش السوري من تطهير الغوطة الشرقية من العناصر المسلحة سواء من يسميهم الغرب المعتدلين منهم أو الدواعش والقاعديين إن صح التعبير، فهي الورقة التي تخدم خطها السياسي القادم في سوريا، وبسيطرة الحكومة السورية على هذه البقعة، والتي بدورها ستؤمن دمشق من قذائف الموت والدمار ستنتهي أوراق الضغط على الحكومة السورية، فهذه الجماعات وراءها دول عربية وإقليمية يسيرها المايسترو الأمريكي من أجل إضعاف الدولة السورية وجعلها تبعاً لسياسات هذه الدول.
انتهاء ملف المسلحين في الغوطة الشرقية يعني سياسياً انتهاء تأثير دور المعارضة ذات التوجه العسكري المسيرة من قبل منصة الرياض، والرافضة دائماً لأي حل سياسي يعطي حقا للرئيس بشار الأسد في الترشح لأي انتخابات رئاسية مقبلة في سوريا الجديدة كما يقولون، لعلمهم بشعبية الرئيس الأسد، وأنّ فرص نجاحه قويةً بالمقارنة بأي شخصية معارضة أخرى. من أجل ذلك فهم يريدون أن يحافظوا على تواجد أدواتهم في الغوطة الشرقية، فهي آخر أوراق الضغط على الحكومة السورية وحلفائها بعد فشل معركة حلب ورجوعها إلى حضن الدولة السورية كاملة غير مقسمة شرقية أو غربية وبعد فشل مشروع معركة الحدود السورية العراقية في شرق سوريا وتحرير دير الزور وأهم مناطقها الحدودية مع العراق.
حينما نعلم ذلك ندرك هذه الهستيريا الغربية والمطالبة بعقد جلسات في مجلس الأمن بذريعة ما يحدث في الغوطة الشرقية وإتهام الحكومة السورية مرة أخرى باستخدام السلاح الكيماوي.
اتهام الجيش السوري باستخدام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية أول مرةً بتاريخ 21 أغسطس 2013 فنده الصحفي الأمريكي المعروف "سيمور هيرش" حيث قال في مقال له بمجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" إن سر تراجع أوباما عن قرار الضربة يكمن في حصول المخابرات البريطانية على عينة من غاز السارين المستخدم في هجوم الغوطة، وأثبتت هذه التحاليل حسب كلام "هيرش" أن الغاز المستخدم في الهجوم لا يتطابق مع ذلك الموجود في ترسانة الأسلحة الكيميائية التابعة للجيش السوري.
وعلى وجه السرعة تم تمرير رسالة إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية مفادها أنّ الحجة ضد سوريا ليست قوية ولن تصمد، وأدى التقرير البريطاني إلى زيادة مستوى الشكوك داخل البنتاغون، وكان رؤساء الأركان يستعدون لتحذير أوباما من أنّ خططه للهجوم على سوريا باستخدام صواريخ وقنابل موجهة بعيدة المدى يمكن أن تؤدي إلى اندلاع حرب واسعة في الشرق الأوسط. عند استلام الرسالة، قام الضباط الأمريكيون بتقديم تحذير في اللحظة الأخيرة للرئيس الأمريكي، وأدى ذلك في النهاية، وفق وجهة نظرهم، إلى إلغاء الهجوم". وقصة حصول المعارضة السورية المسلحة على غاز السارين ذكرها الصحفي الأمريكي "سيمور هيرش" بالكامل ومن هي الجهات المتورطة فيه. فهذه الورقة أصبحت محروقة، ولا أدري لماذا الإصرار الأمريكي والغربي على إعادة تدويلها؟.
أمريكا وحلفاؤها يعلمون أنّ اتهام الجيش السوري باستخدام الكيماوي مرة أخرى في الغوطة الشرقية لن يفديهم في شيء، لأنّها جربته أكثر من مرة، ويعلم العالم كذلك أنّها كذبةً سمجةً يحاول الأمريكي اليائس من خلالها إيقاف انتصارات الجيش العربي السوري، لأنّ انتصاراته في الغوطة الشرقية سوف تظهر فعالياته السياسية في سوتيش أو جنيف، فلن يبقى في يد أمريكا أورق ضغط كبيرة على الحكومة السورية في صياغة حل سياسي حسب رؤيتها، بل ستكون الرؤية سورية المقاس بامتياز، بعد أن تسقط أدوات الغرب وبعض الدول العربية من جسم المعارضة السورية، ويكون الحوار سوري/ سوري لا مكان فيه لفيتو غربي أو عربي.