مستقبل الوظائف في الثورة الصناعيّة الرابعة

أ.د/ أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي بجامعة سوهاج – مصر


يعيش العالم اليوم بداية الثورة الصناعية الرابعة والتي من أهم ملامحها حدوث تغيّرات تكنولوجية هائلة تسعى إلى دمج المساحات الحسيّة والرقمية والبيولوجية معا لتنتج عالَمًا مختلفًا إلى حد كبير عن العالم الذي نعيشه اليوم، عالم يعتمد كلّيًا على الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة، والروبوتات العملاقة، والطابعات ثلاثية الأبعاد، ومجالات أخرى مُشابهة.
هذا التطور المذهل والمتسارع في المجال العلمي سوف يسهم في إحداث تحول كبير في مستقبل المهن؛ بعضها سيكون مهددا بالاستبدال، والبعض الأخر سوف يتطلب تطوير مهارات متقدمة للاستعداد للقيام بهذه المهن، وهو ما سيشكل تحديا كبيرا للدول والشركات والأفراد على حد سواء للتكيّف مع تلك المتغيرات.
يؤكد تقرير "مستقبل الوظائف" The Future of Jobs الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (2016)، أن مجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية ستتفاعل خلال السنوات المقبلة لتؤثر على سوق العمل في العالم والمنطقة العربية، مما يؤدي إلى نمو مهن جديدة، وانحسار بعض المهن الحالية. ويشير التقرير إلى المهارات الجديدة التي سيحتاجها سوق العمل في جميع الوظائف، وإلى طرق جديدة لتنظيم العمل، وأدوات لزيادة كفاءة الأيدي العاملة. وتوقع التقرير أنه في حالة توظيف هذه العوامل بشكل جيد، فإن ذلك سيمكن البلدان ذات الدخل المتوسط من العمل على توسيع قاعدة التصنيع لديها.
هذا التقرير هو نتاج دراسة استقصائية تمت بالتعاون بين المجلس العالمي لمستقبل الوظائف والمجلس العالمي للتكافؤ بين الجنسين، وشارك فيها مجموعة من الخبراء الأكاديميين، والمنظمات الدولية، وشركات الخدمات المهنية، ومديري الموارد البشرية، وكبار المدراء التنفيذيين في 371 منشأة عالمية.
أوضح التقرير أن هناك عدة عوامل اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية سوف تسهم في تغيير مستقبل الوظائف على المدى القصير، وحدد نسبة أهمية كل عامل من تلك العوامل. وجاءت هذه العوامل كالتالي: تغير بيئات العمل (44%)؛ ارتفاع نسبة الطبقة الوسطى في الاقتصادات الناشئة (23%)؛ التغيرات المناخية وقلة الموارد الطبيعية (23%)؛ والتغيرات الجيوسياسية (21%).
وبالنسبة للعوامل التكنولوجية، فجاءت عوامل التغيّر كالتالي: الإنترنت والتقنيات السحابية (34%)؛ التقدم في القدرات الحاسوبية والبيانات الكبيرة (26%)؛ وإنترنت الأشياء (14%)؛ ومنصات العمل الجماعي (12%)؛ والروبوتات المتقدمة (9%)؛ والذكاء الاصطناعي (7%)؛ وتقنيات الصناعة المتقدمة والطباعات ثلاثية الأبعاد (6%)؛ والتكنولوجيا الحيوية وعلم الجينوم (6%).
وفيما يتعلق بالمهارات أو الكفاءات التي يبحث عنها أرباب العلم والتي يتعيّن على الموظفين في المستقبل اكتسابها من أجل أداء المهام الوظيفية المستقبلية، ذكر التقرير (35) من الكفاءات والمهارات التي ستكون ضرورية للعمل في مختلف القطاعات. قسم التقرير هذه المهارات إلى ثلاث مجموعات: القدرات (المرونة المعرفية، والإبداع، والتفكير المنطقي، والحساسية للمشكلات، والتفكير الرياضي، التصور البصري، البراعة والدقة اليدوية)؛ المهارات الأساسية (مهارات المحتوى، ومهارات المعالجة)؛ والمهارات لقطاعات متنوعة (المهارات الاجتماعية، مهارات الأنظمة، مهارات حل المشكلات المعقدة، مهارات إدارة المصادر، والمهارات التقنية).
وأبرز التقرير أنه سيكون للتطورات الصناعية العالمية تأثير كبير على فرص العمل، بدءًا من خلق فرص عمل كبيرة إلى فقدان وظائف أخرى، وأشار التقرير إلى أن هناك العديد من المهن والتخصصات ما زالت لم تظهر بعد للوجود، وربما لن تظهر قبل عدة سنوات من الآن، وتوقع الباحثون أن حوالي 65٪ من النشء الذين هم في المرحلة  الابتدائية اليوم سوف يعملون في وظائف جديدة لم توجد بعد.
ويبدو أن الاتجاهات الحالية في سوق العمل سوف تؤثر سلبا على وظائف الأعمال المكتبية والإدارية، وسوف يزداد الطلب على الوظائف في مجالات الرياضيات والحاسوب ومجالات الهندسة المعمارية، ومجالات الهندسة الأخرى ذات الصلة، كما من المتوقع أن يشهد قطاعي الصناعة والإنتاج  انخفاضا في معدل الوظائف.
وأظهرت البيانات أن وظائف الرياضيات والحاسوب سوف تشهد ارتفاعا كبيرا الفترة القادمة، وبالتحديد في مجال تحليل البيانات وتطوير البرمجيات ليس فقط في قطاع تقنية المعلومات، وإنما في قطاعات مختلفة منها قطاع الخدمات المالية والإعلام حيث إن مهارات التحليل والتعامل مع البيانات الكثيرة Big Data  تعتبر محرك رئيس لنمو التوظيف.
وقد أشارت بعض التقارير الدولية إلى أن هناك عشر وظائف سيحتاجها العالم بشدة في المستقبل القريب، وهي: البرمجة، أمن المعلومات، تحليل البيانات، الطاقة البديلة، القانون الدولي، الطباعة الثلاثية الأبعاد، التعليم عن بعد، التسويق، المستشار الشخصي، والمخطط المالي.
كما أظهرت التقرير حدوث فجوة بين الجنسين في الوظائف التكنولوجية، حيث أن نمو الوظائف الجديدة في الكمبيوتر والتكنولوجيا والمجالات المتعلقة بالهندسة يفوق المعدل الذي يشغل فيه النساء لهذه الوظائف حاليا، مما يعرضهم لخطر عدم الحصول على فرص عمل مستقبلا في هذه المجالات. هذه الفجوة بين الجنسين في مجالات [STEM] وهي:(العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات) هي محل اهتمام جميع الدول الأوروبية تقريبا. حيث تعمل الدول الأوروبية على: معالجة نقص نسبة الفتيات في مجال [STEM] ، ومعالجة تراجع الاهتمام بالالتحاق بالتخصصات العلمية، والقلق من احتمال حدوث انخفاض في الابتكار والتنمية الاقتصادية، والعمل على رفع الطلب على الأيدي العاملة المؤهلة في هذه المجالات.
إن سرعة التطور الذي ستحدثه الثورات الصناعية الرابعة لن يتيح لنا الكثير من الوقت للتدريب على المهارات الضرورية لسوق العمل، مما يعني ضرورة التخطيط والاستعداد للتغيير السريع من قبل المؤسسات التعليمية بكل مستوياتها.
وقد أشار التقرير إلى عدد من التحديات التي تواجه مستقبل الوظائف، من أبرزها قلة المصادر في الأنظمة التعليمية، وعدم تماشي الخطط الاستراتيجية للقوى العاملة مع متطلبات الابتكار، وقلة الوعي بالعوامل التكنولوجية والاقتصادية للتخطيط السليم لمستقبل الوظائف.
وقد اختتم التقرير بعدد من التوصيات التي يجب على القطاعين الحكومي والخاص والتخطيط لها على الأجلين القريب والبعيد، فيما يلي أبرز هذه التوصيات:
أولا - على المدى القصير: العمل على إعادة هيكلة أقسام الموارد البشرية، بحيث تصبح إدارة المواهب أولوية في سياساتها، وتحليل الفجوات لمعرفة المهارات المطلوب تعزيزها في المستقبل لدى الموظفين، والتأكد من أن استراتيجية إدارة المواهب متماشية مع استراتيجيات المنظمة،  ومع سياسات الابتكار والتكنولوجيا.
ثانيا - الاستفادة من تحليل المعلومات: على الحكومات والعاملين في القطاع الخاص بناء منهجية جديدة في التخطيط لإدارة المواهب عن طريق تحليل المعلومات والإحصائيات المتوفرة عن الصناعات والبلدان والمهن والمهارات المطلوبة بشكل مستمر.
ثالثا - التنوّع في المواهب: العمل على تغييرات جذرية لمواجهة "حرب المواهب" على المستوى المحلي والدولي.
رابعا - الاستفادة من سياسات العمل المرنة واستخدام منصات الكترونية للعمل مع المتخصصين والموهوبين؛ ففي عالم تسوده العولمة، أصبح من المألوف للشركات استخدام التكنولوجيا والمنصات الإلكترونية للتعاون مع المستشارين والمتخصصين عن بعد ودون الحاجه للاجتماعات المباشرة، ذلك يسهل التعاون مع المواهب في دول في إنجاز الأعمال.
خامسا - التوصيات على المدى الطويل:  إعادة التفكير في دور أنظمة التعليم: معظم أنظمة التعليم القائمة حاليا لا زالت تركز على مهارات القرن الـ20،  كما أن مخرجات التعليم لا توفر متطلبات سوق العمل بالشكل المطلوب، لذا يجب على الشركات التعاون الوثيق مع القائمين على التعليم لوضع تصور عن مناهج تتوافق مع المهارات المطلوبة في القرن الـ21.
سادسا - التعاون بين القطاعين العام والخاص: تتطلب تحديات التغيير من قبل الشركات التعاون مع الاطراف المختلفة في قضايا المواهب كأولوية استراتيجية من خلال عقد الشراكات مع القطاعات  المتعددة، وبالتالي فإن هناك حاجة لتوجيه من قبل القيادات على مستوى الدولة والعمل الاستراتيجي داخل الشركات وفي مختلف الصناعات، بما في ذلك الشراكات مع المؤسسات العامة وقطاع التعليم، كما يتطلب الوضع إلى وجود إصلاحات تشريعية من جانب الحكومات في هذا الشأن.
وأخيرا السؤال الذي يجب أن تجيب عليه المؤسسات التعليمية – سواء قبل الجامعي أو التعليم الجامعي- أين نحن من هذه التغيرات، وكيف نخطط لنستجيب لها سواء على مستوى المناهج أو التخصصات أو أساليب التعليم/التعلم. هل سنستمر نؤدي الأدوار نفسها بالطريقة نفسها، ونخرِّجُ الخريجين أنفسهم بالخصائص والمهارات نفسها، وفي التخصصات ذاتها، دون النظر إلى التغيرات التي باتت تطرق أبواب حاضرنا بقوة دون أن نحرِّكَ ساكنا؟!
-    لمطالعة المزيد حول التقرير يمكن العودة إلى التقرير على الرابط:
http://www3.weforum.org/docs/WEF_Future_of_Jobs.pdf

تعليق عبر الفيس بوك