حمد بن سالم العلوي
تُرى كم من الفرص العلمية ضاعت منذ حقبة ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، ففي تلك الحقبة من الزمن كان هناك شاب يافع في قريتنا يدرس في المرحلة الإعدادية، أي قبل تطوير التعليم وتغير تدرجاته من(1: 12) وهذا التطوير توقف مع تغير مسميّات المراحل دون المساس بالجوهر، وفي قريتنا لم تكن خدمات الكهرباء قد وصلت إليها، هي وتلك القرى البعيدة الموغلة في الجبال، فقام هذا الشاب بابتكار وسيلة إضاءة من طاقة الريح تساعده للدراسة ليلاً، ثم أخذ ينوّع في الابتكارات ومصدر معلوماته تليفزيون صغير يعمل بالبطارية، ومن خلال نشرة أخبار الخامسة من تليفزيون السلطنة، فتعرف على الطائرة العمودية والمدفع فقلد صنعهما ونجح، وصنع سيارة بعجلات دراجة هوائية وموتور مياه صغير يعمل بوقود البنزين، وصنع مسدسا بتحوير بندقية ضغط، فقد كان طموحاً واسع الخيال العلمي، حتى صار أعجوبة أهل القرية فوصل خبره إلى جريدة الوطن، فأرسلت مندوبها في المنطقة يبحث عنه، فأجرى مقابلة مع الشاب وأسرته، ونُشرت ابتكاراته وأفكاره في صفحتين متقابلتين في جريدة الوطن.
لقد انتشر خبر هذا النابغة عبر صحيفة الوطن وهي جريدة واسعة الانتشار في ذلك الوقت، حيث لا شبكة تواصل ولا فضائيات بلا حدود كما هو حالنا اليوم، وظننت وقتذاك أنا والكثيرون من أهل القرية أنّ مؤسسات الدولة المعنية بتطوير التعليم والشركات الوطنية في البلاد ستتسابق على القرية باحثة عن الشاب المبتكر لتتبناه، وترسله يكمل دراسته إلى أرقى الجامعات العالمية، ولكن خاب ظننا في الجميع، ولم يسأل عنه أحد ولا يعنيهم شيء من مثل هكذا أمر، فأكمل الشاب دراسته بهدوء ودون ضجة، وأخذ يبحث عن عمل يوافق طموحاته الكبيرة، ولكن يتفاجأ أن ليس من أحد يحتاج إلى خدماته وبحوثه، متعللين له بضعف لغته الإنجليزية، وبعد لف ودوران وجد وظيفة في جهة حكومية، وعلى مضض شديد منهم كمتدرب على ماكينة خراطة الحديد.
لقد تفتق في ذهن الحكومة في نفس الحقبة من الزمن أي ثمانينيات القرن الماضي فكرة إنشاء ناد علمي، فمن خلاله يُمتص طموح الشباب والمخترعين، ثم من خلال ذلك النادي يميتون حافزية المخترعين والمبتكرين بالملل من خلال الدوران في حلقة مفرغة، ويفرّغون نشاطاتهم الذهنية بالتهميش وعدم الاهتمام، ومن ثم يعودون إلى منازلهم بخفي حنين، بعدما يتعبهم كثرة التردد وصرف كل ما في الجيب على مشاريع البحوث والتجارب العلمية دون مستقبل واضح يقودهم إلى نتيجة حقيقية.
إنّ من يقف على أساس عميق، يستطيع أن يرفع البناء بسهولة ويسر، فعُمان بما لها من ماضٍ عظيم مشرّف، يكون بمقدوره أن ينهض ويتقدم بدون صعوبة، فقط بالقليل من الجهد تستنهض العقول النيرة، ومعظم هذه العقول تعلن عن نفسها بين وقت وآخر، بمعنى أوضح لا يحتاج الأمر إلى إعلان وبحث، وإن كان ليس في ذلك عيباً طالما الجهد يصب في تقدم الوطن، فاليوم يفصح مواطن عن مخترع يولد به غاز الطبخ من طاقة الشمس، وبالأمس القريب يعلن مواطن آخر عن ابتكار مصعد كهربائي اقتصادي، والابتكارات التي تقدمها العقول العُمانية لا تعد ولا تحصى، ولكن الإهمال يطويها وننساها بمرور الأيام، وربما كان غيرنا يخطفها جاهزة، ونسبها إليه بالقليل من الجهد والمال. إنّ الابتكار الذي أعلنت عنه وزارة النفط والغاز في تطوير مضخات إسمنتية تحسن الإنتاج، وقبل سنوات ابتكار العُمانيون لطريقة الثقب المنحرف إلى مكامن النفط، وهو ابتكار متفرد كما أعلن عنه في وقته يومذاك، وابتكار الاستدارة قبل التقاطعات التي ابتكرها بعض الطلبة، وساعدت على تقليل الازدحام المروري، والكثير الكثير من الابتكارات الأخرى في مجالات مختلفة، قد يذهب بعضها هدراً نتيجة الإهمال واللامبالاة.
إنّ العقول التي شقت عجائب الأفلاج تحت الأرض، وبنت الحصون والقلاع لحماية الحضارة العُمانية، وصنعت السلاح والذخائر، وصنعت السفن التي شقت عباب البحار والمحيطات، وأبدعت في علم الفلك واللغة والنحو وقواعد الإعراب، وأنشأت دولة عظيمة بالعدل والسلام، واستطاعت أن تسود المنطقة والإقليم، والأقاليم المجاورة حتى شرق ووسط إفريقيا، وسمي الجزء الغربي للمحيط الهندي ببحري عُمان والعرب، عرفاناً بالحضور العُماني المشرف، وقد طلبت بعض الدول التي كان يهددها الغزاة وقراصنة البحار بالحماية العُمانية، لقوتها البحرية وعدلها الشامل، فتلك العقول لا زالت تتناسل مع وجود محفزات التطور والتطوير، وهذه الكرامات الربانية التي منحت النفس والعقل العمانيان الصفاء والنقاء والوفاء، جعلت عُمان درة التأريخ على الدوام، وإن زخرت البصرة في مطلع الدولة الإسلامية بالعلماء والقادة السياسيين والعسكريين من أهل عُمان فلا عجباً أن ترد إلينا اليوم أسماء علماء نوابغ من الأصول العُمانية القريبة في دول الجوار، وتمّ تبنيها هناك لأنّها نبغت علمياً.
إذن العيب ليس في نوابغ العلماء العُمانيون من مختلف الأجيال، فعُمان ما تزال ولاّدة بالعلماء ولن ينضب يراعها، ولكن العيب كل العيب في حكومتنا العتيدة وليست الرشيدة، فهي بتحجُّرها وجمودها الغريب توصد أبواب التطور والتقدم أمام نوابغ العلم والفكر، ربما خوفاً من زحزحة الكراسي، وغياب نشوة السلطة والمصالح الشخصية حتى لو على حساب تطور وتقدم الوطن.
وكما قال أحد المسؤولين ذات مرة يصف نجاحه الباهر، بأنه وُفِّق في عمل مقاربة بكبح تقدمنا في مجال مُعين ليوافق تخلُّف غيرنا من العرب، فهكذا عقول لا يعوّل عليها قيادة نهضة حديثة، تقارن عُمان بالدول المتقدمة، وليس بالدول المتخلفة في كل شيء، حتى وإن سعى بعضها للتقدم، تكالب عليه رجعيو العرب ودمروه تدميراً، فأقول للمسؤولين الذين يقودون التطور إلى الوراء، أطلقوا العنان للتقدم، وفكُّوا عقال التنمية للنمو والازدهار، وأزيحوا عصيكم من دواليب قطار النهضة، وأنظروا فقط إلى السياسة القابوسية الفذة الحكيمة، فلو كنا "زنابع" في سياستنا لذهبنا مع زوابع العرب، لأن زوابعهم ليس لها نهاية إلا الفشل والهاوية، فهل تعلمون طريقاً إلى التقدم حتى تسلكوه، وبه يتميز وطننا كما كان متميزاً عبر التأريخ، أم سنظل نُغنِّي على أطلال منجزات الأوائل بلا حراك يذكر.
إذن تشغيل العقول الوطنية بالابتكار والإنتاج، أفضل وأدوم مليون مرة عن حقول النفط والغاز علاوة عن الضرائب والرسوم المجحفة، ثم إننا كدولة ريعية في نهجها غير مهيئين بعد للضرائب، خاصة وأننا نقص يد الضعيف إذا سرق، ونغض الطرف عن القوي إذا اختلس، وليس ذلك فحسب بل ندعم الشركات الكبيرة إذا خسرت، وخير شاهد على ذلك شركة الطيران العُماني التي خسائرها تعد فحشاً وكفراً لهول ضخامة حجمها، وذلك مقارنة مع الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي إذا تعثرت خرجت إلى السبات العميق، ولوحق صاحبها بالشيكات المرتدة، نريد تصحيحاً في نهج سياسة الاستثمار والتطوير الوطني، ونريد عقولا تواكب التقدم والتطور، وأن يحال المعوِّقون التقاعد، والفالحون إلى مستشارين؛ أمّا أن نظل نسير على خارطة ضبابية فلن نتقدم، والشجاعة والإقدام مطلوبان مع إعمال الفكر والعقل.