من يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل

 

علي بن مسعود المعشني

التاريخ ليس قصصا وأساطير للتسلية وهدهدة الأطفال قبل النوم، بل أحداث وسير ومواعظ وعبر لأقوام سادت ثم بادت، وسلّمتنا مشعل التاريخ والحضارة؛ لنعتبر ونتعظ ونسير في الأرض عبر صفحات التاريخ ودهاليزه ومنعطفاته وسكناته. الغريب أنّ من يقرأ التاريخ اليوم ويهتم بكل تفاصيله وأدقها هم أعداؤنا الغرب فتاريخنا في "أرشيفهم" منذ عهود الاحتلالات كي يدركوا كيف يتعاملون معنا ويبقون على شتاتنا وضعفنا ويقررون مصائرنا ويقضون على مفاصل القوة فينا كلما وجدت وفي أي زمن.

ليس من المطلوب منّا أو المنطقي كذلك أن نتحول جميعنا كعرب معاصرين إلى مؤرخين أو حتى قراء مدمنين للتاريخ، ولكن ما هو مطلوب وحتمي لنا أن نبقي على نافذة التاريخ مفتوحة لنا كي نستوعب الآخر وحربه الوجودية ضدنا سواء بالوسائل العنفية أو الناعمة، ولنعلم كذلك بمواطن القوة والمناعة لدينا لنواجهه أو لنقلل من حدة آثار وضراوة الحرب الضروس بيننا وبينهم.

هناك معلومات جذرية ومحورية في تاريخنا المعاصر كعرب كالنصوص القطعية الدلالة إن شئنا اجتزاء التاريخ والقفز فوق مراحله واختصاره، والتأمل فقط في القرن الاحتلالي الغربي للوطن العربي بعد سقوط الدولة العثمانية، فهل لنا أن نقرأ وعد بلفور وسايكس/ بيكو والكتاب الأبيض وتقسيم فلسطين ثم الحروب والمؤامرات التي تلت تلك المخططات ولغاية اليوم بمعزل عن حرب وجودية حضارية يقودها ويؤججها الغرب الاستعماري ضد الأمة العربية!!؟

وهل لنا أن نصدق من يقول ويزعم بأنّ الغرب الاستعماري يمكن أن يقوم بدور الخصم والحكم والصديق والعدو في آن!!؟

وهل هناك عاقل واحد يمكن أن يصدق بأنّ ما تُسمى بإسرائيل ليست سوى قاعدة متقدمة للغرب في قلب الأمة يراد منها إبقاء التمزيق والشتات والفرقة والوهن والقُطرية بين الأمة وجسدها الواحد، وأن الغرب لا يمكنه أن يسمح مطلقًا بقوة عربية أو وحدة عربية أو تضامن عربي أو أنموذج عربي طالما بقيت ما تُسمى بإسرائيل في موقعها ووظيفتها؟!

الغرب والتاريخ القريب يفهماننا بأن العرب كتلة واحدة ومصير واحد وكلهم في خانة الاستهداف والعداء، المطبع منهم والخائن والعميل والوطني والمقاوم، فالمطلوب هو الفوضى الخلاقة للجميع، وفي أوطان الجميع؛ الحليف منهم والتابع والمقاوم حتى تدين الأمور والمصير بالمطلق للغرب وتتحقق السيادة المطلقة والسيطرة والحظوة للكيان الصهيوني الغاصب.

من طَبّع وقبل بالتطبيع مطلوب منه التخلي التدريجي عن كل مقومات القوة والعزة والكرامة والمزيد من التنازلات حتى الانتحار والتلاشي، ومن رفض التطبيع مطلوب محاربته وجعله عبرة لغيره من الرافضين للقضاء والقدر الأمريكي عبر تحالف العملاء في الداخل والأعداء من الخارج.

الأُمّة العربية أُمّة عصيّة بقوتها وعصيّة بضعفها على الأعداء وتلك من مشيئة الله ووعده لخير أمة أخرجت للناس، الأمة الحاضن للدين الخاتم والرسول الخاتم. لهذا يقيض الله لها من الأسباب للصمود والنصر وإن أنكر الأعداء والمتخاذلون ذلك.

الغرب اليوم وكيانهم الغاصب وأدواتهم في المنطقة في أرذل العمر والوهن والشتات رغم مظاهر القوة الغاشمة الزائفة التي يلوحون بها بين الحين والآخر والتي لا تعبر سوى عن مدى الإحباط المُركّب الذي يعاني منه الغرب في تحقيق مشروعاته وتمريرها وكما كان قبل عقود قليلة.

لم يدرك الغرب النرجسي وأعوانه بعد ولم يستوعبوا صدمة حرب تموز 2006م وما أحدثته من زلزال استراتيجي في مفاصل الصراع العربي الصهيوني ومن خلاله الصراع الوجودي مع الغرب، فما زال الغرب وأعوانه يحلمون وبأثر رجعي بالجيش الذي لا يُقهر وأذرعه الاستخباراتية الطولي، ومازال الغرب وأعوانه يحلمون بتمرير مشروعهم الشرق أوسطي الجديد وفق مقررات مؤتمر أسطنبول عام 2004م والذي عقد برعاية "الخليفة" أردوغان  للاحتفال بسقوط بغداد وتدشين المشروع عبر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005م لتسهيل الانقضاض على دمشق رافعة لواء المانعة وحاضنة المقاومة. لم تباغتهم حرب تموز بل كسرت استراتيجيتهم وفتت مشروعهم وجعلت الكيان الصهيوني هدفا متاحا ومشاعا لمضادات وصواريخ المقاومة. ومن يستعيد تصريحات كونداليزا رايس خلال أيام حرب تموز وغطرستها ونشوتها وثقتها بتحقيق مشروعها التشطيري للأمة يدرك اليوم ومن واقع النتائج على الأرض حجم الخيبات التي جنوها من رهانهم الخاسر على الكيان البالي، هذه الخيبات التي دفعتهم إلى الاستعانة بالدواعش لاحقًا لخوض أقذر حرب عرفها التاريخ في العدة والعتاد والوسائل كملاذ أخير. ومن يقرأ بتمعن وعمق حقيقة استعانة أمريكا وطابورها بالدواعش في هكذا حرب يقرأ مدى ضعفهم ويأسهم ومدى سقوطهم الأخلاقي المريع ككيانات وشعوب وأفراد.

ثم أتى ربيعهم ليجعل من الأقطار التي مر بها جروحًا مفتوحة ومزمنة وشعوبًا تتمنى العيش البدائي مقابل الأمن، والربيع رسالة جلية لحلفاء أمريكا قبل خصومها في المكانة والمصير المحتوم.

الأمم المهزومة بطبيعة الحال لا تحتاج الى هذه الجحافل من الجيوش وأسلحة الدمار الشامل وتحالفات بحجم الناتو، ولكنها الحقيقة الغائبة والمغيبة على أننا أمة عصية رغم كل مظاهر الضعف والانهزامية والفرقة والشتات، وأنّ النصر حليف شعوبنا المقاومة والمؤمنة بحقها وعدالة قضاياها فنحن اليوم في زمن حكومات ظل عتيدة وعصية كفصائل المقاومة والحشد الشعبي، والتي بفضلها أصبح لبنان الصغير يقول (لا) كبيرة جدًا في وجوه الكبار وفي زمن (نعم)، وبفضل الحشد يتشكل العراق الجديد بصمت وتأثير بالغ، وترقبوا المزيد من ذلك في القريب، والعبرة لمن أعتبر وقرأ المشهد بعقله لا بعاطفته ولا بأحلامه الوردية ولا عبر قنوات الفتنة وأقوال الصحف وتقارير الغرف السوداء الناعقة بالهزيمة والثبور. فالقافلة تسير بثبات وتكبر وتتسع والزمن لا يعود للوراء، ولن يرحم الأقوياء بأثر رجعي ولا المستقوين بهم.

قبل اللقاء: كثيرة هي مظاهر الكوميديا السوداء في حياة العرب المعاصرين، رغم أنني أكره تعميمها أو ترديدها، لإيماني بأنّ الفكر الطليعي يجب ألا يعرف الإحباط أو اليأس أو يرّوج لهما، وأن يُسكن كل حادثة في مقامها وظروفها وحجمها، ونحن أحوج ما يكون اليوم إلى رجال يحملون فكرًا طليعيًا يقود ولا ينكسر ويبني ولا يهدم ويسير إلى الأمام بثبات متسلحًا بنفيس الماضي ومتعظا من عثراته دون أن يجتر هذا الماضي أو يقدسه..

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com