التفوق التعليمي.. متى سيتفوق بن عربي على ماكسيم وجون ويون؟

د. سيف المعمري

حين ننظر للعالم من حولنا تعليميًّا، نجد أمامنا أربعة أنماط من الدول؛ دول متفوقة تعليميا وتمثل النموذج الأكثر نجاحا في إصلاح التعليم ورفع مؤشراته، ودول أخرى تواصل حصد النجاحات وإحداث التحولات في أنظمتها التعليمية؛ وبالتالي يُتوقع لها أن تلحق بالدول المتفوقة في ظرف سنوات قليلة، أما الفئة الثالثة من الدول فهي التي لا تحرز تقدما ومهددة باتساع الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة والتي تحصد نجاحات متواصلة تتسع إلى عشرات السنين، أما الفئة الرابعة من الدول فهي الدول الفقيرة تعليميا التي تتسع في نسب الأمية.. ووفقا لذلك التصنيف، يمكن تصنيف هذه الدول اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا لا توجد دولة عربية واحدة قادرة على المنافسة مع الدول المتقدمة تعليميا؟ وبعبارة أخرى: لماذا يتفوق ماكسيم وجون ويون على بن عربي دائما؟

سعيًا للإجابة عن هذا السؤال الذي قد يبدو في نظر البعض بسيطا من حيث صياغته، إلا أنه عميقا في المعنى الذي يحمله، سعيت مع طلاب الدراسات العليا طيلة السنوات الماضية للتفتيش عن بعض الأسرار التي تقف خلف هذا التفوق، قُمت معهم بمسح ما يقارب ثلاثين دولة، من الفئتين الأولى والثانية، وجمعنا مادة معرفية ثرية جدا ليس عن النظام التربوي فقط، ولا عن المناهج، ولكن أيضا عن السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتأثيره على بناء العقلية التربوية المتفتحة، وعلى اتخاذ القرارات التربوية المرنة والمناسبة التي تحاول أن تستجيب لواقع الحياة ومتطلبات الطلاب الإنسانية، وحين حاصرتنا الأسئلة العميقة، وسيطر علينا أحيانا بعض الإعجاب بتجارب هذه الدول وجعلها من التعليم مهمة ممكنة وممتعة، وقابلة للارتقاء بالإنسان، وجدنا أنفسنا أيضا أمام حالة من الشعور بالألم والإحباط حول الإخفاقات والتأخر الذي يسيطر على أنظمة التعليم في المنطقة، والذي قاد إلى تداعيات كثيرة على مختلف الصُّعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فظهرت لدينا مجتمعات مشوهة، تتحدث عن الفساد حين يتحدث الآخرون عن الشفافية وحكم القانون، وتتحدث عن المحسوبية حين يتحدث الآخرون عن تكافؤ الفرص، وتعطي أهمية للتوجيه والتلقين حين يعطي آخرون أهمية للتفكير والتحقيق، وتعلي من شأن المكانة الاجتماعية حين يعلي الآخرون من شأن المنجز المعرفي، وجدنا مجتمعات تلتفت إلى الخلف في وقت توجه مجتمعات أخرى أنظارها إلى الأمام، بل إلى المجرة بأكملها، بغية اكتشاف الأسرار التي تضمها، وجدنا الغش يسيطر على قطاعات الحياة بما فيها التعليم في وقت تسيطر الأمانة والمصداقية في تلك المجتمعات التي تتفوق وتتقدم، فلكم أن تتأملوا الفرق بين الإنسان الذي تنتجه وتربيه تلك المجتمعات والإنسان الذي تنتجه وتربيه مجتمعاتنا، ولكم أن تنظروا إلى المستقبل الذي سوف يصنعه الإنسان الأول والمستقبل الذي سوف يصنعه الإنسان الآخر، هنا ندرك الفارق بين تعليم يقود إلى بناء الحياة الآمنة والسعيدة، وتعليم يقود إلى بناء الحياة المضطرب، بين تعليم يستغل الإنسان ويحدث لديه إعاقات، وتعليم يحرر طاقات الإنسان، ويحثه على التفكير والتمرد على وضعه وعلى القيود التي توضع في طريقه في كل مكان، الإنسان غير المتمرِّد يعد عبئا على مجتمعه، وخطرا على استقراه وتنميته، كيف يمكن أن تبنى تنمية على إنسان ملسوب الإرادة والتفكير؟!!!

إنَّ ما قدمناه بمعية طلاب الدراسات العليا في كتاب "التفوق التعليمي: الحقائق المجهولة عن تسعة أنظمة تعليمية عالمية"، يعد الخطوة الأولى لنشر البيانات الكثيرة التي جمعناها عن أسباب تفوق ماكسيم وجون ويون وغيرهم من الدول التي تتقدم في تصنيفات التعليم التي تصدر سنويا من خلال المراكز المتخصصة ذات الموثوقية العالية، والتي من ضمنها البنك الدولي، في هذا الكتاب الذي يُعرض في معرض مسقط الدولي للكتاب، ويحظى باهتمام المتابعين والتربويين في عُمان وخارجها، تطرقنا إلى دائرة الأمن التي يصنعها التعليم في كل من بلجيكا ورومانيا والنرويج والنمسا وروسيا وكندا وجمهورية التشيك وبربادوس، هذا الدائرة التي تحمي المجتمعات من البطالة والاستغلال والتجهيل هي دائرة لابد أن تحظى باهتمام دول الفئة الثالثة والرابعة التي تنتشر فيها كل هذه الظواهر، وتتزايد احتمالات الصراعات فيها على الموارد والفرص والمشاركة؛ وبالتالي يجد الناس فيها أنهم في حالة ارتباك بدلا من أن يكونوا في حالة استقرار تدفعهم للتفكير والعمل والإبداع والمشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية بدلا من التفرج على الآخرين.

إنَّ ابن عربي لم يولد فاشلا ولا غبيا، ولكن الإرادات التي تقف خلف مؤسسات التعليم تقوده ليكون كذلك، بينما الإرادات التي تقف خلف ماكسيم وجون ويون تردك أن مورد لابد من استثماره لتحقيق مزيد من التقدم والمنافسة مع الآخرين، متى سنُدرك أن ابن عربي ليس خطرا على أحد، لكنه إنسان قابل مثل الآخرين للتقدم والعمل والابتكار والإبداع، ولكن يريد تعليما مختلفا عن تلك النصوص العتيقة التي لا تقبل النقاش، ويريد مدرسة أسوارها مفتوحة لنسمات الحرية التي تحرك نقاش كل شيء يحرك العقل، ويريد إرادات سياسية تؤمن أن كل ما تقوم به من أجل الأمن يمكن أن يوفر ثلثيه عن طريق الاهتمام بالتعليم، ويريد محاسبة وشفافية على الإنجاز والتقصير فلم تتفوق الدول التي ركز عليها الكتاب إلا من خلال الاهتمام بالتقييم الداخلي والخارجي، لم تتفوق إلا من خلال صناعة مكانة عليا للمعلمين الذين وجدنا في كل هذه الأنظمة االتربوية يحظون بالاهتمام والمتابعة قبل دخول المهنة وخلالها، ويقدم له الأجر الذي يتناسب والدور الكبير الذي يقومون به.. أيها السادة، إنَّ المسافة بين المتفوقين في التعليم وغيرهم ليست قصيرة كما يهون البعض منها، هي تصل حسب تقديرات البنك الدولي إلى 260 عاما تبعا لمستوى الدولة والإرادة التي تحملها لإصلاح التعليم، إن لم نتحرك تتسع الفجوة، ومعها تضيق دائرة الأمن والاستقرار، إما إصلاح التعليم الآن أو الاستعداد لمواجهة النتائج الوخيمة المترتبة على ذلك، والقرار للذين يملكون القرار -والنظر للذين لديهم نظر، والاهتمام بالذين لا يزالون يكترثون- أما اللامباليون، فلهم ما قاله محمود درويش في اللامبالاة فلسفة لا يفهمها أحد.