حميد بن مسلم السعيدي
لا تقوم الأمم إلا بسواعد الشباب، فهم بناة المستقبل وعلى سواعدهم تبنى الأوطان، وما يحققه شبابنا بالخارج من إنجازات على مستوى العالم هو فخر لكل عُماني، حيث يتصدر طلابنا قوائم الجامعات العالمية في النتائج التحصيلية أو في المشاريع الناجحة، والتي أبهرت الأساتذة والدكاترة والباحثين بنوعيتها وفكرها، وهي منتجات عُمانية تقودنا للتساؤل، أين يذهب هؤلاء الشباب عندما يعودون للوطن؟
العمل الوطني متاح لكل المواطنين والتنافس للحصول على هذه المكانة، يجب أن يكون عبر المعايير التي تستطيع استخلاص المبدعين والمفكرين والمنتجين والمخلصين للوطن، وعندما تكون هذه المعايير على مستوى عالي من الاختيار، فإنّها بكل تأكيد سيكون الاختيار في صالح الوطن، وسوف ينعكس على مخرجات المؤسسات التي تعمل على اختيار الكفاءات الوطنية سواء كان في الوظائف الإدارية أو الفنية، وطالما الرسالة هي العمل من أجل عُمان فلا يمكن التنازل عن هذه المعايير في اختيار الكفاءات الوطنية، ولكن هناك معايير يضعها الواهمون والباحثون عن رضا الآخرين، وهي المعايير التي تأخذ طابع العلاقات الاجتماعية والمحسوبية والواسطة، وهذه المعايير أقوى من المعايير الحقيقية، وما يدلنا على وجودها هو انتشار الترهل في المؤسسات وسيادة الفساد وضعف المنتجات، وتأخر هذه المؤسسات عن مواكبة الحداثة، لأنّها اعتمدت على الاختيار وفقا للأهواء والأمزجة، وهذه المعايير لا وجود لها في قائمة الدول التي تسعى نحو صناعة التقدم.
لذا فإنّ الكفاءات المخلصة عندما تتعرض لمثل هذه المواقف تشعر بالظلم والاستبداد نظراً لغياب الحقوق، وانتقالها لأشخاص لا يستحقونها، وهنا تمكن خطورة هذه التصرفات غير المسؤولة حيث تموت هذه الكفاءات إذا لم تجد الفرصة التي تظهر فيها قدراتها، أو الوظيفة التي تتناسب مع إمكانياتها الفكرية والعقلية، وتظل حبيسة للظلم والمعاناة، ومع الزمن تأخذ مسار الذي صمم لها؛ ألا تقدم شيئا لهذا الوطن، وهنا تصبح الصورة أكثر كمالاً حيث يخسر الوطن الكفاءات الوطنية، وتظل المؤسسات قابعة في المؤخرة دون تجديد لأنها قامت على موظفين تم اختيارهم وفقا لمعايير اجتماعية وليس وفقا للمعايير التي تتناسب مع تلك المؤسسات، وما نشهده اليوم من تجدد في بعض المؤسسات وقدرتها على مواكبة الحداثة وتحقيقها لمستويات عالية من الإنجازات دليل على مدى تمسكها بالمعايير، أمّا المؤسسات التي ما زالت في ذات المنهجية دون تغيير فهو دليل على ابتعادها عن المعايير الحقيقية.
والوطن بحاجة للشباب أكثر من حاجته للمسنين، والذين يعيشون في مرحلة لا تتناسب مع فكرهم، فهم قدّموا الكثير من الخبرات لهذا الوطن، ولكن اليوم العالم اختلف ولم يُعد مثل السابق، فالمرحلة الحديثة هي مرحلة صراع وتسابق بين دول العالم للتنافسية الاقتصادية والبحث عن أسواق لها، وهذا التسابق يدفعهم نحو التجديد والحداثة، مما يسهم في تغير العالم في مختلف المجالات، الأمر ينعكس على العملية الإنتاجية في كافة مراحلها، في حين أنّ أفكار الشباب التي جاءت بأحدث ما شهد العلم يختلف عن الأجيال التي تعلمت في مراحل متقدمة تعود إلى القرن الماضي، فالفروقات بين الأجيال تخلق فجوة كبيرة وصدام فكري بينهم، مما يسهم في اتساع هذه الفجوة وضياع الحقوق نتيجة لصراع التوجهات والأفكار، وهنا يعود السبب في رفض البعض وتمسّكه بمقعده، وإبعاد الشباب عن الوظائف الأساسية في مواقع التخطيط واتخاذ القرار، وذلك خوفًا على غياب المكانة التي حافظ على وجودها منذ عشرات السنين، وهذه التوجهات التقليدية لا تخدم الوطن، وإنما تؤثر سلبا على تلك المؤسسات التي تظل قابعة في التقليدية وعدم قدرتها على مواكبة الحداثة والتغيير.
لذا ففكر الشباب في هذا الأمر مختلف، وربما لا ينظر إلى تلك النظرة الضيقة التي يرى فيها بعض المسؤولين أنّها تنافسية، وإنّما نظرة الوطن ومصلحته هي التي يجب أن تكون تاجا فوق رؤوس المواطنين، حيث إنّ معظم الشباب دائما ما يبحث عن التجديد نظير القدرات والمهارات والكفايات التي اكتسبها خلال مرحلة التعلم الحديثة، مما يسهم في معالجة العديد من المشكلات التي تعاني منها المؤسسات اليوم، ولكن هذا الفكر التجديدي قد لا يتفق مع بعض العقول التقليدية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على استمرارية إتاحة الفرصة لهم أو حرمانهم منها، مما يدفع بعض القيادات إلى ركن الشباب بالزوايا وتهميش قدراتهم وكفاءاتهم، بل ومعاملتهم بصورة تمييزية عن بقية الموظفين وذلك من أجل محاربتهم؛ لأن أفكارهم اصطدمت مع الفكر التقليدي التي يتحكم في إدارة المؤسسات.
الأمر الذي يعود بنا فعلا للبحث عن الأسباب التي أدت إلى غياب تلك الكفاءات الوطنية عن ساحة الإنجازات، والرغبة في وجود معايير وطنية ومؤسسات رقابية قادرة على إعادة وضع النقاط فوق الحروف، ووضع مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات، والعمل على صياغة القوانين التي تحاسب كل من يبتعد عن توظيف المعايير في اختيار الكفاءات الوطنية، خاصة أنّ مبدأ التنافسية قد وضعه جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم والذي كان واضحا في النظام الأساسي للدولة، وما إنشاء القضاء الإداري إلا لوجود مثل هذه التوجهات السلبية التي لا تخدم الوطن.