ذكرى الميثاق والظروف المستجدة

 

عبيدلي العبيدلي

بخلاف السنوات الماضية التي احتفل فيها شعب البحرين بذكرى ميثاق العمل الوطني، وإعلان الدستور، تأتي هذه الذكرى في ظل ظروف مختلفة تماما تفرض نفسها وبإلحاح، وتتطلب معالجة مختلفة ترقى إلى مستوى تلك التحديات التي باتت تفرضها تلك الظروف، وتلح على ضرورة التوصل إلى حلول مبتكرة قادرة على مواجهة الشروط التي تفرضها.

فعلى المستوى الاقتصادي، هناك الأعباء المالية المتصاعدة التي باتت تثقل كاهل المواطن، وتدفعه نحو خيارات، يحاول أن يتمرد عليها، ويبذل جهوده كي يتحاشى اللجوء إليها. هذه الضغوط الاقتصادية المتنامية والقابلة للتوسع ليس من الممكن وضعها في خانة الطارئة، فهي بحكم تكوينها وهيكليتها قابلة للاستمرار، ومنفتحة على التزايد؛ الأمر الذي يقتضي من الجميع التصدي لها بصدر رحب، ونظرة واسعة، ورؤية قابلة للتطبيق. وإن كانت المسؤولية الأولى تقع على عاتق الدولة، فهذا لا يعفي القطاع الخاص من المشاركة في البحث عن الحلول، من أجل التوصل إلى مخارج، تكون واقعية بعيدة عن الوعود الوردية، ورافضة للتمنيات الفردية. هنا نقف عند ضرورة البحث عن المعادلة السليمة التي تنظم علاقات الحقوق والواجبات بين دوائر الاقتصاد الخاص، ومؤسسات الدولة المعنية. ليس من العدل تبرئة الدولة من مسؤولياتها، وليس من الإنصاف حرمان القطاع الخاص من المشاركة في صنع القرار، وهو الأمر الذي يجعل من الوصول إلى المعادلة السليمة مسؤولية وطنية ملحة ومصيرية. وهي غير قابلة للنجاح، ما لم تبنى على أسس علمية مستقاة من تجارب إنسانية أخرى، دون أن يعني ذلك الاستنساخ العشوائي، أو التطبيق غير المراعي لعوامل الاختلاف والتباين. فمن أهم القضايا التي دعا لها الميثاق، وكرسها الدستور، هو التأسيس لاقتصاد قوي، قادر على النهوض بالبحرين، ليس في أوقات الازدهار والرفاه، وإنما في الأوقات الصعبة، وعند المنعطفات الحادة، وإبّان المحن الاقتصادية، مثل التي نواجهها اليوم.

أمّا على المستوى الاجتماعي، فالأمر يحتاج إلى عملية قيصرية سريعة تضع حدا لاستمرار الشرخ الطائفي في التوسع، ويحول دون امتداد التقوقع الفئوي من الانتشار. فالتشظي المجتمعي، الطارئ، وغير المعهود في المجتمع البحريني، بات يطل بسحنته البشعة في كل مناحي الحياة في المجتمع البحريني. لم يعد الأمر محصورا في طائفة دون أخرى، أو مقتصرا على فئة دون سواها من فئات المجتمع البحريني. بات المواطن البحريني يواجه السلوك الطائفي الواضح منه والمقنع، في مختلف الهيئات والمؤسسات التي يحتاج لإنجاز معاملاته اليومية معها. ومن أجل وضع النقاط على الحروف فالأمر لم يعد كما يحلو للبعض أن يروج مقيدًا في إدارات الدولة ومؤسساتها؛ بل انتشر كالفيروس المحموم كي يصل إلى صلب السلوك اليومي للمواطن ذاته، الذي بات بوعي وبسابق إصرار البعض وبشكل عفوي عند البعض الآخر؛ تصرفا نلمسه في كل دائرة من دوائر الاحتكاك اليومي بين المواطنين. الأخطر من ذلك التوريث الممنهج الذي يمارسه البعض تجاه الأجيال القادمة التي باتت ترضع من حليب الطائفية العفن، وتتغذى من أطعمة الفئوية النتنة، دون وجود رادع يوقف مد الأولى، أو واعز يقلص من انتشار الثانية. وهذا يعني أن المستقبل الذي ينتظر البحرين، مكلل بسواد قيم تهدد بانهياره، وتنذر بتحوله إلى كانتونات متناثرة، تجمعها رقعة جغرافية واحدة، وتمزقها قيم مجتمعية متنافرة.

تزداد الرؤية قتامة عند ما نصل إلى المستوى السياسي، ولربما كانت القضية السياسية هي الأكثر حضورا، على المستويين الكمي والكيفي التي تناولها الميثاق، وتوقف عندها الدستور. فبعد إخراج البحرين من نفق قانون أمن الدولة السيء الصيت، جاء الميثاق سوية مع الدستور كي يؤهلان البلاد للدخول في طريق التحول إلى مجتمع مدني متحضر تنعم فيه منظمات المجتمع المدني بما تستحقه من رعاية وما تتمتع به من حقوق. وفوق ذلك كله كان فتح المجال أمام تشكيل المنظمات السياسية، في هيئة جمعيات من حقها ممارسة العمل السياسي. تلقت الجماهير البحرينية تلك المساحة المنفرجة فسارعت في تأسيس جمعياتها السياسية، وباشرت في تأطير عملها المجتمعي، تحت مظلة الميثاق، وسحابة الدستور. لم يقدر لهذه التجربة أن تأخذ حقها من النمو، وعرفت الساحة السياسية البحرينية بعض الالتواءات العرضية التي أعادت الجفوة بين الحركة الجماهيرية من جهة، والدولة ومؤسساتها من جهة ثانية. وليس ما شاب التجربة البرلمانية من تشوهات سوى الدليل القاطع على صحة مثل هذا التشخيص. من جديد هنا يتطلب الأمر تضافر قوى المجتمع برمته، ومعها مكوناته السياسية بمجملها: الدولة وجهاتها ذات العلاقة، والقوى السياسية من جهة ثانية، من أجل النهوض من الكبوة السياسية التي لا يختلف الجميع على أنها ما لم تتم معالجتها بشكل وسريع، وعلى نحو صحيح؛ فمن شأنها إعادة المجتمع البحريني خطوات واسعة لكنها ستكون نحو الخلف بدلا من الأمام، كما نصت عليه مواد الميثاق ودعت إليه بنود الدستور.

لربما من المحال أن تجري معالجة معضلات هذه المستويات دفعة واحدة، فمنطق التصدي للتحديات يقتضي أن يوضع السلم الصحيح للأولويات، ولعل واقع الحال يؤكد أنّه في أعلى درجات هذا السلم يتصدر المجلس الوطني، والذي هو أعلى سلطة تشريعية في البلاد، وعليه، فالخطوة الأولى هي إصلاح البرلمان، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا بوصول النواب الأكفاء إلى مقاعده. فمتى ما بنت البحرين برلمانها المعافى، فعلى أيدي أعضائه الأكفاء سيتم التصدي لمشكلات المستويات الثلاثة التي أشرنا لها أعلاه.

وهنا سيجد المواطن نفسه يبحث عن تضافر جهود مكونات العمل السياسية جميعها من أجل ضمان برلمان سليم الجسد، يسير أعماله أعضاء رشحوا من أجل الإصلاح، وانتخبوا لكونهم كفاءات وطنية بعيدا عن الطائفية البشعة، والفئوية المترهلة.