قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

الأنا والآخر في "ابتسامة الجَدْي" لـ ديفيد غروسمان(5-6)

أمين دراوشة – أديب وناقد فلسطيني – رام الله

 

آخر محاولة للخروج
عندما وقع زلزال في سانت أناريللا في إيطاليا، كان يوري هناك مع الصليب الأحمر يساعد في البحث عن ناجين، وتعرف على كاتسمان. ويلاحظ يوري أن (عندال) تشبه سانتا أناريللا، لذا انجذب إليها. ويحس باختلاف جوهري بينهما أيضا، فالزلزال وقع بغتة وانتهى بسرعة "أما هنا فها هي تتمطى لمدة تزيد عن خمس سنوات يصبح الزمن الذي ينز من ثقوب الظلم.. مثل السم الذي يشل الجسد ويتلف الدماغ" ـ (ص17)، فحكاية الاحتلال هنا، لا يبدو أنها ستنتهي، بل قد تشلنا وتقتلنا، ونكون نحن الإسرائيليون ضحاياها.
يقول لنفسه مخاطبا حلمي، إنه ما أتى إلى عندال إلا ليجعلها مكاناً أجمل للعيش: كنت أملك في عقلي مشاريع كثيرة لكم "المزيد من الماء لأرضكم، هل تذكر؟ هنا تحت هذه الشجرة، رسمت حقول التبغ والنبع الصغير بعصاي. أردت بناء عيادة، وتعبيد الطرق، وتعليم بنات القرية كي يصبحن قابلات. كي لا تقتل دهيشة العجوز القذرة المزيد من الأطفال، وكان ما أردته أكثر من أي شيء آخر أن أربح ثقتكم وأن أتغلب على تصميمكم بمقاطعتنا. جرى بيننا نقاشات هائلة، أنا وأنت" ـ (ص70).
يحاول يوري تجميل ما لا يمكن تجميله، وعلى الرغم من أنه يكتشف بشاعة الاحتلال إلا أنه قادر على تبرير جرائمه، فيقول، كان لدي مشاريعي، إذ ينبغي العمل على تغيير كبير هنا، "هناك حواجز وعمليات تفتيش جسدية للرجال والنساء، وتحقيقات منتصف الليل، واعتقالات إدارية، وإقامات جبرية.. ونسف بيوت في الليل، وتفتيشات من بيت إلى بيت، ولا صداقة. كأن الجانبين أرغما على إظهار أسوأ ما فيهما". ويحمل يوري الطاهر الفلسطينيين المسؤولية كما يحملها للاحتلال وبشكل متساو. كما يبرر ويعطي الحجج لأفعال الاحتلال، وأن كان ذلك على لسان كاتسمان، الإنسان الذي يشعر بالخوف والرعب، لذا يمارس العنف ضد الفلسطينيين، لأن ذلك يعطيه نوعا من الراحة والشعور بالقوة. يقول يوري على لسان كاتسمان "نظم العرب مظاهرة اضطرتنا لاستخدام العنف لتفريقهم". ألقى أحدهم قنبلة يدوية، اضطررنا لفرض منع التجوال "وتفتيشات من بيت إلى بيت.. تتسم المعاملة بنوع من القسوة، يجري تحطيم جهاز تلفزيون على مرأى من أطفال صامتين في مناماتهم.. لذلك نحن على حق، وهم على حق، نحن احتلال متنور إلى أبعد الحدود" ـ (252).
إن يوري يبذل جهده، ليجعل الاحتلال أمرا ممكنا، عبر المساعدة بإصدار تصريح زيارة لأم، ولدها في السجن، أو "إرسال مجندة لحضور جلسات التحقيق مع فتيات فلسطينيات قاصرات" ـ (ص254)، أو محاولاته الفاشلة في إقناع كاتسمان بإزالة جثة حمار متعفنة قتله جنود الاحتلال أثناء مطاردة فتى فلسطينيّ رشق دورية للاحتلال بالحجارة.
ماذا يقول يوري تبريرا لفشله: تعاركت مع كاتسمان لإزالة جثة الحمار، ولكنه أخذ يتكلم وهو يمشي بالغرفة، وعلمت أن لا فائدة من محاولاتي معه، ذلك لأن "حجته منطقية نوعا ما، وهذه هي المشكلة دائما، تحدث عن الجزرة والعصا، عن سياسة هات وخذ" ـ (ص308). ويخبره كاتسمان عن الاشتباك مع مجموعة فدائية في جوني، وقتل ثلاثة مخربين، أحدهم يزدي ابن صديقك حلمي في عندال، فيهمس يوري "يزدي كان أبله، كان معاقا، واستغلته الفتح" ـ (ص22). يستكثر يوري الطيب على الفلسطيني اختيار طريق المقاومة للاحتلال، فيخبرنا أن يزدي لم يكن سوى عاجز وغبي، ولم يكن يدرك ما يفعل نتيجة استغلاله من حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
ويحس يوري بأن الكيل طفح، وبأنه لم يعد قادرا على الاستمرار في عمله، فيتجه نحو بيته، لتستقبله شوش بإخباره بصدق يخالطه كذب عن خيانتها وكذبها، فيخرج من بيته متجها إلى مغارة حلمي، بعد أن سرق سيارة جيب وجهاز إرسال من مقر الحاكم العسكري. وهناك يحاول بشكل بائس محو ذاكرته، ونسيان كل من يعرفهم، والذين لا يتقنون إلا الكذب والخداع. يقول عن شوش: "احتاج قدرتي كلها لتحطيم ما كان بيننا، الأشياء التي قلناها، والأحلام التي حلمناها" ـ (ص16)،  لكنه يفشل، فالأكاذيب لها قدرة عجيبة على التوالد، ومن كثرتها تتحول إلى حقيقة، ما يؤدي إلى التداعي والانهيار.
يصل يوري التلة، ويدخل على حلمي، الذي يفهم بسرعة سبب قدومه، فيمتلئ بالاضطراب والألم: يزدي، كان هنا، لقد جاء لتوديعي، ويخبره حلمي أنه أخبر ابنه عنه: "حكيت له عنك يا يوري. أخبرته بأنك عشت معي بضعة أيام هنا، ولم يعد بوسعي أن أكرهك. وبما أنه يجيد القراءة، قرأ الخربشة، أدركت عندها بأنني قد فقدته". وكان أهل البلدة، قد كتبوا كلمة "خاين" فوق المغارة. عندها سأل يوري، عن ردة فعل يزدي، فقال حلمي: "شعر بالعار. تألم. اعتقدت في البداية أنه غاضب لأنك عدو، لكنه ألحّ في الأسئلة عما رويته لك، وهل حكيت.. عن القرية اللامرئية وعنه. وعندما أجبت بأنني رويت بعضها احمرّ وجهه وارتعش حاجباه من الغضب. وللحظة نسى الكلمات التي حقنه بها طائفة الرواة الجوالين، وبدأ التذمر بلغتنا الطفولية" ـ (ص68ـ69).
يطلق حلمي اسم الجوالين على منظمة التحرير الفلسطينية، ويحملهم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع لأنهم فاشلون. أما يوري فيشعر بقلق فجائي، ويتذكر الفقرة 119 "من بروتوكول الدفاع المستمد من قوانين الطوارئ أيام الانتداب، أن لجيش الدفاع الإسرائيلي سلطة نسف بيوت الإرهابيين"، ويتساءل، هل سيهدمون مغارة حلمي؟ وسينسفون برميل الماء "البركة المقدسة التي ينقع نفسه فيها صباح كل يوم لتقليب أفكاره".
مهما حاول يوري الكذب على نفسه، بأن الأمور في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمكن أن تكون أفضل، حتى باستمرار الاحتلال، فأنه يصطدم دوما بعنف الاحتلال وقسوته التي لا تفرق بين طفل وفتاة وكهل، وحتى مجنون، فكلّ الفلسطينيين قتلة وإرهابيون، أو على الأقل ينجبون إرهابيين.
والرواية، رغم تقدمها على الروايات الإسرائيلية الأخرى، لا تنجو من الحشو غير المبرر لصفات محقّرة للفلسطينيين. يقول يوري الطيب عن حلمي، الذي يشعر بقرب تجاهه وكأنه والده: "بدأت رائحته تزداد سوءا، سيقطف عما قريب أوراق الليمون عن الشجرة ويدلك بها جسده شيئا فشيئا".
وكان يوري قد سأل طبيبا حول هذا المسألة، فأخبره أن الأمر يمكن أن يكون بسبب اضطرابات في الغدد بسبب الشيخوخة، ولكن حلمي يزعم "أن رائحته كانت كريهة من يوم ولادته، منذ اللحظة التي سحبته فيها القابلة" ـ (ص71). ويهرب المؤلف من إنزال أشد الصفات المقذعة بحق الفلسطينيين على لسانه، ليخبرنا على لسان بطل الرواية العربي الفلسطيني، أن العرب الفلسطينيين يولدون قذرين ويملكون رائحة مقيتة، وجينات وراثية تميزهم.
ومن الصفات الأخرى الواردة في الرواية على لسان يوري الطاهر، يقول: "أرى قدميه الهزيلتين تطلان من الحذاء الممزق" ـ (ص72). كما يقول أيضا: "تأتي من القرية أصوات نساء ونهيق حمير" ـ (ص151).
يخبرنا الكاتب أن يوري أحبّ حلمي، والتصق به، "كل ما أعرفه لو أن شخصا قال لي إن هناك إنسانا في العالم من نوع حلمي لما صدقته. نحن لا نعرف الكثير عن العرب في الواقع. لقد طمرناهم تحت احتقارنا لهم" ـ (ص153). مع ذلك، فإن يوري يحس بأن نقاشه مع حلمي لا معنى له، تماما مثل نقاشه مع كاتسمان "مثل دودتين تنهشان بعضهما فوق حجر ساقط. وكلما ناقشت كاتسمان حول الأراضي المحتلة، أرد عليه بلسان حلمي، استخدم محاججات حلمي ضده. بهذه الطريقة أستطيع التسلل بين نوعين من العدالة" ـ (ص122).
وعندما يتذكر يوري حياته السابقة، وكمية الكذب والخداع في حياته، ينظر إلى حلمي بينما كان يخرج من البرميل وهو ينفض نفسه ككلب مبلول، ويقول لنفسه: "فليكن ما يكون، أنا جندي إسرائيلي، أوجد أسيرا في مخيلة عجوز عربي مجنون، سيشرح لي ما ينبغي أن أفعل كي أكون أكثر دهاء من الكذبة" ـ (ص127). لمعت في ذهن حلمي فكرة مجنونة، فقال ليوري: اسمع، سأطلب من جيشكم الرحيل من أرضنا مع حلول الفجر وإلا سأقتلك، فرد عليه يوري: "ولكن تعرف، أنا.. الناس من أمثالي، نحن فرصتكم الوحيدة لتغيير أي شيء هنا"، فيردّ حلمي: إنك مجرد مبرر "أنت خطر بالنسبة لي، يا يوري، لأنك تمنع الكذبة من النمو"، فالكذبة تستغلك، وجماعتك يستغلونك، عليك "ألا تكسر الكذبة ويجب أن لا تعيقها. يجب أن تتضخم الكذبة" ـ (ص157)، من أجل أن يراها كل الناس، للوصول إلى مرحلة يعجز فيها الكذب عن تبرير الخطايا.
لم يحاول يوري الهرب، مع أنه كان قادرا على انتزاع المسدس من حلمي. لقد أعجبته الفكرة. فكرة ممارسة الكذب مع حلمي، على الأشخاص الذين كذبوا عليه طوال السنوات الماضية. ويباغت حلمي، يوري عندما يشعل النار لأعداد القهوة، فيخرج هويته ويقول: "انظر.. الهوية التي أخذتها من جماعتكم، هذه الورقة الزرقاء، تفوقني قيمة.. إذا ضبطني أحد جنودكم بلا هوية يأخذوني إلى السجن"، ويضيف أن شكري بن لبيب، اقتيد إلى الشرطة لأنه لم يحمل هويته، بعد أن أهانته المجندة أمام المتواجدين في الشارع، "صدق من قال مرة في جوني، لم يبق رجال، هناك أوراق فقط. أنظر ما سأفعله الآن، يا يوري، ولا تمنعني"، وألقى بهويته الزرقاء إلى النار، وكأنه يقطع بشكل نهائي ولا رجعة عنه صلته بالإسرائيليين المحتلين، ما جعل يوري يشعر بالرعب، فلا تراجع "فالهوية نوع من الوصل يأخذه العرب ليثبتوا وجودهم، كي يثبتوا أنهم كائنات موجودة في الواقع" ـ (ص242)، فالعربي الفلسطيني ليس له وجود، ولا شيء يثبت وجودة إلا بطاقة سخيفة تصدرها الإدارة المدينة والعسكرية للاحتلال.
يوري يحس بالمتعة أيضا، فحلمي بقصصه الخرافية، وفكرته المجنونة باختطافه أشعره بالنشوة"  "كنت شديد العمى.. رأيت ما أردت رؤيته فقط، وهذا مظهر من مظاهر الكذب". بهذه الطريقة أحببت شوش، وصدقت كاتسمان، وأتيت إلى جوني معه "كذبت طيلة الوقت دون أن أعي ذلك، لكن ما يجري لي هنا مع حلمي شيء مختلف. كانوا كلهم يكذبون عليّ، بينما هنا.. نحن هنا نقتسم كذبة ما، مما يحولها من مجرد كذبة إلى نوع محتمل من الحقيقة، فالكذبة التي يصدقها شخص واحد خداع قاس ومميت" ـ (ص159). أنا ما جئت لعندال لأقول لحلمي أبنك مات، بل جئت "لأتعلّم منه الحكمة، لأتعلّم فنه في الكذب على الأكاذيب، بكل صدق وإخلاص" ـ (ص121). ثمّ يمضي يوري لإحضار جهاز اللاسلكي من الجيب، ليطلق منه إنذار حلمي.

تعليق عبر الفيس بوك