إيران الثورة هبة من السماء (2 -2)

 

علي المعشني

أمّا الحلقة الثانية فتتكون من كبار المسؤولين الحكوميين وموظفي الدولة ومن محافظي الأقاليم والإداريين، وتتكون الحلقة الثالثة من أفراد يسيطرون على كيانات ومؤسسات متنوعة، كالمؤسسات الثورية وأجهزة الأمن المختلفة، كما تتألف أيضًا من كبار الشخصيات في مجال الصحافة والإعلام، وتشكل هذه المجموعات معًا قاعدة السلطة للنظام وتعمل على نشر أيديولوجيته، وأمّا الحلقة الرابعة فتتكون من الأفراد الذين قاموا في الماضي بدور مهم في النظام.

كما يوجد في إيران شبكة كاملة من قوات الأمن الثورية (تعمل بمعزل عن الجيش النظامي) من أهمها اللجان الثورية الإسلامية وقوات الحرس الثوري الإسلامي والميليشيات الشعبية المعروفة باسم الباسيج. وهذه من لزوميات الثورات.

سابع عبقريات الثورة أنّها امتصت جميع الصدمات وتجاوزت كافة حلقات المؤامرات عليها بدءا من الحرب العراقية الايرانية وما تخللها من فصول دمويّة كتفجير مقر مجلس الوزراء ومقتل الرئيس رجائي وعدد كبير من رجال الدولة ورموز الثورة وقادتها (79 شخصا) عام 1981 بالتزامن مع تصعيد لوتيرة الحرب على الجبهات واجتياح بيروت، وإشغال تنظيم الإخوان وإشعالهم للداخل السوري، وذلك كخطة استباقية متكاملة لتقليم أظافر وحواضن المقاومة، ووفاة مرشد الثورة وقائدها الإمام الخميني عام 1989 والرهان على صراع محتمل على السلطة، وصولًا إلى ما سُمي بربيع طهران عام 2009 بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية. وهذه من سمات الدولة العميقة.

ومقابل هذه الصلابة في المبادئ والسياسة الخارجية والصدق والوضوح في التعاطي مع الأزمات في المنطقة جنت إيران الدولة والثورة وحظيت بنصيب الأسد مقابل ضمان حياديتها أو شراكتها في كل أزمة إقليمية إعترافًا من الخصوم قبل الحلفاء بحيويتها وتأثيرها وقوتها وأهمية مشاركتها.

فقد استطاعت إيران الثورة فرض نفسها وبقوة في كل حدث إقليمي بدهاء سياسي عميق وباستراتيجية رصينة ومتماسكة وبإدارة سياسية للأزمات بهدوء وثبات. فاستطاعت بذلك صون أمنها الإقليمي وإبعاد خطر المؤامرات ونقل المعارك إلى ساحات بعيدة عن جغرافيتها، حيث أدركت القيادة الإيرانية أهمية ملء الفراغ السياسي ومغبة تركه للغير وخاصة خصومها.

إيران الثورة وظفت مقدرات إيران البشرية والطبيعية والجغرافية والتاريخية بدهاء كبير ولعبت بأوراقها في الأوقات المناسبة لتحقيق أكبر العوائد وأفضلها، فنمت وقويت وترسخت الثورة والدولة معًا.

لا يمكن النظر إلى الثورة الايرانية أو تقييمها قياسًا على ثورات أخرى، فمشكلة من يقيمونها دائمًا يستحضرون نماذج ثورية قديمة أو معاصرة فتضل بهم السُبل وتغيب عنهم بوصلة الاهتداء، فالثورة الإيرانية ثورة بُنيت على عقائد ولم تبنَ على قناعات ومن هنا تأتي صلابتها وحصانتها وديمومتها.

كما أنّ الذين يتحدثون عن إيران ويحلمون بسقوط نظامها ويراهنون على مفردات ومكونات وظروف بعينها، هم لا يعرفون إيران من الداخل ويرونها بعيونهم وليس بعيون الشعب الإيراني، فالإيرانيون يعلمون أنّ نظامهم ليس نظاما ملائكيا على كل حال، وليس نظاما شيطانيا في المقابل، ويدركون حقيقة الظرف والمخاطر المحدقة بهم وحقيقة وأهداف المتربصين بهم، ويكفي أن نعلم أنّ أغلب المتظاهرين مؤخرًا انسحبوا من الساحات حين علموا بأنّ أمريكا وطابورها في المنطقة قد تبنوا مطالبهم في وسائل إعلامهم لمعرفتهم بأجندات أمريكا تجاه بلادهم والمنطقة، ورفضًا منهم بأن يكونوا طرفًا ضد بلادهم في المزاد السياسي والإعلامي الأمريكي والغربي، فبقي الغوغاء والعملاء في الساحات لوحدهم حيث سهل حصرهم وتحديد هويّاتهم وتمّت السيطرة عليهم.

الصراع اليوم بين إيران وخصومها، ليس صراعًا سياسيًا ولا إقتصاديًا ولامذهبيا بل صراع مشروعين، تطبيعي يسعى لتقوية الكيان الصهيوني وتمكينه إقليميًا بأي ثمن وتحت أي مسمى كان، ومشروع مقاوم للتطبيع "التحقت" به إيران الثورة وآمنت به ودعمته بكل قوة. وتمّ توظيف جميع الوسائل والسبل السياسية والاقتصادية والمذهبية لمحاربة إيران الثورة وتحت عناوين ومسميات وادعاءات كاذبة للتضليل على الهدف الحقيقي وإخفائه عن الرأي العام من العوام؛ كون الراسخون في العلم لا تخفى عليهم حقيقة الصراع وماهيته وأدواته وأطرافه.

أوراق إيران كثيرة وقوية في الصراع مع معسكر التطبيع، والذي يتمنى ويراهن على إجهاد الدولة والثورة عبر الحصار وافتعال الأزمات والتضليل الإعلامي حتى يرفع من درجة السخط الشعبي في الداخل، وتنحرف الثورة عن مسارها ويقبل الشعب الإيراني العودة إلى ثقافة العلف، ويتنازل عن الشرف تحت ضغط المؤثرات والحصار الجائر. ولكن في المقابل نرى تهاوي خطط واستراتيجيات الخصوم في كل مرحلة كونها بنيت على هشاشة وأحلام لا على واقع ووعي وإدراك بحقائق الأمور ومآلاتها.

لم يُدرك معسكر التطبيع في المنطقة للحظة واحدة أنّه يمكن التضحية به وبجرة قلم من قبل الراعي الأمريكي ووفق الشروط الإيرانية، كذلك في حال قررت إيران الإعلان فقط عن الانسحاب من حلف المقاومة دون زيادة أو نقصان بكلمة واحدة أو موقف واحد، وقد رأينا شيئًا من هذا الموقف في عهد الرئيس باراك أوباما بعد إقرار الاتفاق النووي، كما رأينا كيف قدمت أطراف هذا المعسكر القرابين والتنازلات والمواقف المجانية للرئيس دونالد ترامب حيث تخلوا عن كل شيء مقابل لا شيء وعرضوا حتى خيار انتحارهم الجماعي وبلا ثمن.

قبل اللقاء: خطورة إيران في حسابات معسكر التطبيع لا تكمن في دعمها الجلي والسخي للمقاومة - رغم أهمية ذلك - بل في الخوف من استنهاضها بالتقليد والمحاكاة والإلهام للمشروع النهضوي الحضاري العربي، والذي سيتناسل بلا شك من رحم انتصارات المقاومة وصمود مكوناتها، وإيران أكبر الداعمين والمستفيدين من هذا المشروع النهضوي؛ كونها طرفا تاريخيا فاعلا فيه، ولن تستعيد دورها الحضاري في الحضارة العربية الإسلامية إلا عبر إحياء وتقوية الحواضن التاريخية والحضارية المعروفة كالقاهرة أو دمشق أو بغداد.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com