البسطاء يقودون المجتمع

زينب بنت محمد الغريبية

بسيطة تبدو (هَنَا)، من أسرة متواضعة، تعمل هي وزوجها في وظائف بسيطة، ليستطيعان تلبية الاحتياجات الحياتية لبيتهما وأبنائهما في ظل غلاء المعيشة والخدمات، وتكاد الديون تقصم ظهريهما للإيفاء بالمتطلبات الأساسية من سكن وسيارة وتعليم للأبناء. قد يبدو الأمر طبيعيًا حتى الآن، فما المميز في قصتها عن كثير من العوائل العمانية؟!!

 

اصطحبتها يومًا لقضاء عمل خارج الوزارة، واستأذنتني بأن تمر لأخذ صحون لها لدى أحد عمال النظافة، سألتها: لماذا صحونك وطناجرك عند عامل النظافة؟ فأجابتني بكل عفوية كعادة أسلوبها: أحضر لهم الرز فهم يفرحون لأكله فترة الصباح بعد تنظيف مبنى الوزارة، تلك اللفتة الإنسانية التي تقوم بها (هنا) رغم ضائقتها المادية قد لا يلتفت لها ممن لديهم الرواتب الكبيرة والمناصب العليا بالوزارة، فهي تضع زرعًا في أدني درجة تعمل؛ لأنها الأكثر حاجة من حاجتها.

تدخر (هنا) نقودا لعلاجها وعلاج ابنتها، حيث لم تجد العلاج المناسب في المستشفيات الخاصة، وعندما رغب أحد الزملاء العرب في العودة لبلاده لظروف طارئة، وقد عمم زملاؤه أن من لديه القدرة على مساعدة الزميل العربي لحاجته فليقدم ما استطاع، تفاجأت بأن قدمت (هنا) أكثر من نصف مُدخراتها له؛ ظنا منها أنه أكثر حاجة منها، لم يقدم من هم أفضل ظروف منها ذاك المبلغ، فمن يملك ذاك القلب رغم الحاجة؟!

فالمؤثر هنا ليس العطاء فحسب، بل العطاء المتزامن مع الحاجة المُلحة، في المقابل صادفني موقف بأن كنت مع صاحب عمارات وأملاك في مكتبه، وهرعت إلينا امرأة متسولة تبدو كبيرة في السن، وتقول له: أعطني ما تجود به يدك، فزجرها وطردها من المكتب، حتى أنني استوجست خيفة من قوة الصرخة التي وجهها لها، ثم حاولت استعطافه: ولو بريال واحد، فأنت يا ابني قد رزقك الله من خيره، واستشاط غضبًا وقال: ما أملك هذا من تعبي وجهدي، ولم أتسول لأحصل عليه. فخرجت مكسورة الخاطر.

أنا هنا لا أشجع التسول، ولا أدعو له، ولكن العمر الكبير لتلك المرأة، والوضع الذي أجبرها على طرق الأبواب ومد يدها، كفيل بأن يجعلنا نرحمها ولو بالشيء البسيط حتى لا نجرح قلبها المكسور من هذه الحياة، فلا أحد يرغب أن يكون في مكانها بذاك الموقف المهين، وقد قال تعالى في حوار مع النبي الكريم في سورة الضحى: ( وأما السائلَ فلا تنهر).

ورجل متخصص في الإسلاميات بهرني بعطائه، رغم إنشغالاته وارتباطاته، لا يرفض تقديم مُحاضرة عامة مجانية، أو تقديم مشورة لأحد في المجال، أو جلسة حوارية يستفيد منها حتى ولو أقل من عشرة أشخاص، أو كتابة مقال كلف به ولا يسأل أين سينشر؟ معطاء في علمه وما أنعم الله به عليه لأبعد الحدود، قد لا يملك المال الكافي ليعطيه الفقراء، ولكنه امتلك العلم الذي يوازي المال وربما يزيد عليه، فكان عطاؤه بما وُهِب، لا ينتظر ردًا ممن قدم لهم العمل، بل هو حب العطاء.

وعايشت طبيبا استشاريا، بحكم موقعه في العمل يكاد لا يجد وقتا ليرخي به جسمه التّعِب من كثرة الأعباء في المستشفى وما يتطلبه العمل من أبحاث طبية ومحاضرات لطلاب الطب، ولكنه يُعطي رقم هاتفه لكل من احتاج، ويرد على المكالمة لأي شخص حتى ولو كان في مؤتمر طبي خارج البلاد، ويُقدم المشورة والمساعدة لمن أرادها، ويتابع حالات مرضية في أقسام أخرى لمن طلب منه متابعة حالته أو حالة قريب له، لا ينتظر رد العطاء من ناس بسطاء قدم لهم المساعدة، بل هو حب العطاء..

فالعطاء والقلب الرحيم ليس بمقدار ما لديك، أو مقدار ما تقدم، إنما بمقدار ما تحمل في قلبك نحو البشرية، فالعطاء تسبقه الرحمة، والرحمة هذه إنما ينزلها الله تعالى في قلوب من أحبهم، لأنها منجاة لهم وسط حب الحياة بمادياتها، وحب الاقتناء وتكديس الأموال، فالعطاء يكون حتى بالكلمة أو الابتسامة، العطاء يكون بما تستطيع حتى لو تعاطفت مع أحد في قضيته، وسايرته وأنصت له وبثثت فيه الأمل.

قادتني مواقف (هنا) لكل هذه التأملات، ومواقف أشخاص مروا في حياتي، فشعرت بأن(هنا) وأمثالها على اختلاف المستويات هم أمل الحياة، والإنسانية وسط الماديات التي طغت على الحياة، فكما يوجد الليل يوجد النهار، وتستمر الحياة، ويختار كل شخص كيف يحب أن يكون، دون النظر إلى السائد في المجتمع، ونظرة المجتمع له، أو ما يحصل عليه من تقدير، فرضا الضمير، وراحة القلب، نعمة كبيرة لا يملكها كل البشر.

وبعطاء هولاء البسطاء من أماكنهم وواقع ما يملكون، يمنحهم عطاؤهم قيادة المجتمع، فكثير ممن ينتظرون مساعداتهم يكنون لهم المحبة والامتنان، وينتظرون منهم ذلك العطاء باستمرار، ليكونوا بذلك قادة بعطائهم، يزرعون البسمة، ويجنون الفرح والسعادة.