عيسى بن علي الرواحي
قد يكون من غير المنطق أن نقارن بين مكانة المرأة وقيمتها في المجتمع قبل الإسلام، وعند الأديان الأخرى، وبين مكانتها في ظل تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف؛ فشتان بين المكانتين، وهل كانت للمرأة مكانةٌ أصلا في المجتمع العربي الجاهلي قبل الإسلام؟!
تُدرك المرأة المسلمة ذلك جيدًا، وتعلم أنَّها قبل الإسلام كانت بِلا قدر ولا قيمة، فعند أقوام كانت تُدفن حيَّة بلا ذنب ولا سبب "وإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ" (التكوير: 8-9) وعند أقوام كانت خسيسة القدر بائسة الحال أشبه بالبضاعة التي تُباع وتُشترى، وعند أديان أخرى حياتها مرهونة بحياة زوجها، وعند شعوب كثيرة لا تملك من أمرها شيئاً، ولا حق لها في مُلكٍ أو بيعٍ أو شراء أو حتى حق اختيار الزوج، وغيرها من الحقوق الإنسانية التي تليق بها.
جاء الإسلام العظيم بشرعه القويم ومنهجه الحكيم وصراطه المستقيم، فجعل للمرأة مكانة سامقة وقدرا رفيعا وشأنا عظيما ما كانت تحلم به في يقظة ولا منام؛ فحررها من سُلطان الجاهلية البغيض، ومن قيوده الجائرة، فجعلها نصف المجتمع، وجعل النساء شقائق الرجال يُكمل كل منهما الآخر، ولهن من الحقوق ما عليهن من الواجبات حالهن كحال الرجال إلا فيما لا يتواءم مع فطرتهن، ولا ينسجم مع طبيعتهن.
لقد كرّم الإسلام المرأة في جميع مراحل عمرها وأطوار حياتها بنتا وزوجة وأمًا، لها من الجلال والتقدير ما لا يوجد في أي ديانة أخرى أو منهج بشري قط، ففي طفولتها يحث النبي صلى الله عليه وسلم على حُسن تربيتها، فعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابًا من النار يوم القيامة)، وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( مَن كان له ثلاثُ بناتٍ أو ثلاثُ أخَوات، أو ابنتان أو أُختان، فأحسَن صُحبتَهنَّ واتَّقى اللهَ فيهنَّ َفلهُ الجنَّةَ ) وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله علي وسلم ـ: (ليسَ أَحَدٌ من أمتي يعولُ ثلاثَ بنات، أو ثلاثَ أخوات، فيُحْسِنَ إليهنَّ إلا كُنَّ لهُ سِترًا من النارِ).
وعندما تصبح زوجًا يؤكد الله تعالى في أكثر من آية كريمة على مكانتها العلية وأهمية تقديرها (وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) (النساء: ١٩ (ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ خيرنا من كان خيرًا لأهله، ويوصي بهن خيراً حتى في آخر خطبة خطبها، ففيما ورد عنه في خطبة الوداع قوله: " ألا واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنما هُنَّ عوان عندكم ليس تملكون منهن غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهنَّ في المضاجع واضربوهنَّ ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقًا، ولنسائكم عليكم حقاً؛ فحقكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنَّ عليكم أن تحسنوا إليهنَّ في كسوتهنَّ وطعامهنَّ".
وعندما تصبح أمًا يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أحق بالصحبة من غيرها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك ، قال: ثم من؟ قال: أبوك".
وفي الكتاب العزيز نجد بوضوح تام في أكثر من موضع ما يدل على قدسية الأم وضرورة احترامها والبر بها وتقديرها والإحسان إليها، حتى الكلمة الصغيرة المبنى والمعنى منهيٌ أن تُقال للأم، لكنَّها لم تعد صغيرة المعنى بعد أن نهى الله عنها نهي تحريم، يقول الله تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" (الإسراء: 23) ويقول أيضًا: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" (لقمان: 14) ويقول جلَّ شأنه: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (الأحقاف: 15)...
وللحديث بقية في مقالنا القادم بإذن الله تعالى.