كيف يستفيد المستثمرون في الرعاية الصحية من الاقتصاد السلوكي؟

أ.د/ أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج


أضاف منح جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2017 لـ ريتشارد ثالر تأثيرا متزايدا لعلم الاقتصاد السلوكي، ليس فقط في الأوساط الأكاديمية، ولكن أيضا في الثقافة العامة، وفي بيئات مؤسسات العمل المختلفة.
الاقتصاد السلوكي هو مجال تحقيقي يستخدم مبادئ الاقتصاد وعلم النفس لفهم كيفية اتخاذ الأفراد للقرارات، واستخدام تلك الأفكار في محاولة لمساعدة الناس على اتخاذ الخيارات التي تتفق مع مصالحهم على المدى الطويل
أتاح المجال الناشئ للاقتصاد السلوكي أفكارا واعدة حول كيفية صناعة الأفراد لاختياراتهم. حيث تفترض النظرية الاقتصادية القياسية أن الأفراد مستهلكين عقلانيين يتخذون خياراتهم من أجل تعظيم منفعتهم. ومع ذلك، تُظْهِرُ العديد من الدراسات التجريبية والميدانية اليوم أن الأفراد غالبا ما يجدون صعوبة في اتخاذ خيارات حكيمة. ومن المرجح أن تكون هذه القرارات أكثر صعوبة عندما يواجه الأفراد قرارات تنطوي على عدم اليقنين، والمقايضة بين المنافع الحالية والمستقبلية.
ويقدم الاقتصاديون السلوكيون مجموعة من المبادئ التي تفسر كيفية صنع القرار على نحو أفضل. وأنا هنا أقدم للقارئ تعريفا سريعا عن بعض هذه المبادئ.
مبدأ الدفع: تقترح نظرية (الدفع) Nudge أن التعزيز الإيجابي غير المباشر الذي يهدف إلى تحقيق الامتثال غير القسري يمكن أن يؤثر بطريقة أكثر فاعلية في الدوافع واتخاذ القرارات، من التعليمات المباشرة.  ويوجد اليوم في معظم دول العالم المتقدم وحدات خاصة تحت مسمى "فريق الأفكار السلوكية" أو "وحدة الدفع" تسعى إلى وضع سياسات تحث الأفراد على تغيير سلوكهم الاقتصادي. هذا المدخل يمكن أن يحمل الكثير من الحلول في مختلف المجالات.
المكاسب الآنية: أحد مبادئ الاقتصاد السلوكي التي لها تطبيقات مثيرة للاهتمام وذات صلة بالرعاية الصحية هو أن الأفراد يقدرون (المكاسب الآنية) أو المكاسب السريعة أكثر من تقديرهم للمكاسب اللاحقة التي قد تأتي في المستقبل البعيد (المكاسب الآجلة).
وهذا المبدأ – علي سبيل المثال - له تأثيرات على إدارة الأمراض المزمنة، خاصة عندما يكافح المرضى من أجل تقدير فوائد السلوكيات الصغيرة ذات الآثار المتنامية التي يمكن أن تجنبهم عواقب مكلفة على المدى الطويل.
مبدأ النفور من الخسارة: وهو ميل الناس إلى تفضيل تجنب الخسارة أكثر من الحصول على مكاسب. هذا المبدأ مهم في تفسير السبب في صعوبة تشجيع أنماط الحياة الصحية. وهذا له علاقة أيضا بمفهوم "التحيز الآني" الذي يدفع الناس إلى إيلاء المزيد من الاهتمام بالفوائد الفورية عن تلك التي لها القدر نفسه من الأهمية والتي من المرجح أن تحدث في المستقبل.  
مبدأ التحيز للحاضر: present bias هو ميل الأفراد إلى تقدير المكاسب أو الخسائر في الحاضر أكثر من المستقبل. هذا المبدأ، بالإضافة إلى مبدأ النفور من الخسارة، يتم توظيفهما للتأثير على السلوك البشري في العديد من البرامج.
مبدأ التأطير Framing: تأثير التأطير هو مثال على الانحياز المعرفي، حيث يتفاعل الناس مع خيار معين بطرق مختلفة اعتمادا على كيفية عرض هذا الخيار.  فقد تختلف الصورة حينما نقول إن 80% مؤيدون لقرار ما عن قول إن 20% من الناس لا يؤيدون هذا القرار. على الرغم من أن النتيجة لا تزال هي نفسها ولكن بكلمات مختلفة.
مبدأ التحيز المستند إلى النتائج: يميل الأفراد إلى الحكم على جودة قرار ما من عدمه بالنظر إلى نتائجه ويتناسون أن جودة هذا القرار أو صوابه ينبغي أن يحكم عليها بالنظر إلى المعلومات التي كانت بين يدي من اتّخذ القرار عندما اتّخذه لأنّه لم يكن يبصر عواقب القرار عندما فعل. هذا الخطأ الدارج في الحكم على قدرات صانع القرار بالنظر إلى نتائجه بعد أن تقع أو تحدث يطلق عليه مصطلح الانحياز/ التحيّز إلى النتائج.
مبدأ تأثير الترسية Anchoring Effect: هو شكل من أشكال التحيز المعرفي الذي يجعل الفرد يركز على أول معلومة تقدم له عند اتخاذ القرار. وهذا يؤثر بشكل خاص على القرارات المتعلقة بالقيم العددية كما يحدث عند تسعير قيمة أي سلعة، حيث يضع المشتري في ذهنه عند اتخاذ  قرار الشراء القيمة المرساة (Anchor) التي ذكرت له في البداية. وكثيرا ما يستغل تأثير الترسية في حالات البيع لتحديد أسعار المنتجات. فعندما يعلن البائع سعر ترسية مرتفع ثم يخفض سعر البيع (إلى القيمة التي قد التي كان ينوي البيع بها)، فإن السعر المرساة Anchor يظل يمارس تأثيره كنقطة ارتكاز، مما يجعل سعر البيع الجديد يبدو وكأنه صفقة أفضل.
ولكي ترحب صناعة الرعاية الصحية بأفكار الاقتصاد السلوكي وتستفيد من نتائجه هناك سببان رئيسان لضرورة حدوث ذلك الترحيب:
السبب الأول: هو أن العديد من الطرق التقليدية التي طبقت فيها مبادئ التسويق والاقتصاد على الصحة بدأت تظهر قصورا واضحا (مثل الإعلانات التجارية "الصدمة" المستخدمة للحد من حوادث الطرق أو التدخين).
السبب الثاني أن الاقتصاد السلوكي يسمح بسياسات أكثر كفاءة وبخفض التكاليف، وهو موضع ترحيب كبير في صناعة الرعاية الصحية التي تواجه التحديات المالية والميزانية.
أحد الأمثلة على الجدوى الاقتصادية لتوظيف مبادئ الاقتصاد السلوكي في مجال الرعاية الصحية يأتي من التقارير التي تتحدث عن الكلفة المالية لعدم التزام المرضى بالمشورة الطبية في الولايات المتحدة.
وفقا لدراسة أجراها المجتمع الوطني لجمعية الصيادلة، فإن ثلاثة من كل أربعة أمريكيين لا يأخذون أدويتهم وفقا للتوجيهات، وأن 49% ينسون أخذها، و31٪ لا يملؤون الوصفات الطبية، و 29٪ يتوقفون عن تناول حبوب منع الحمل قبل نهاية الدواء! ووفقا لمعهد نيو إنغلاند للرعاية الصحية، فإن هذا يكلف 290 مليار دولار أمريكي سنويا (أكثر من 11٪ من مشروع قانون الرعاية الصحية الذي تبلغ قيمته 2.5 تريليون دولار).
المزيد من الخسائر تأتي من المواعيد (المراجعات الطبية) الفائتة. وفق تحليل الدراسة المشتركة، فإن معدلات عدم الحضور لزيارات الطبيب تتراوح بين 20٪ إلى 30٪. ، وقدرت إحدى الدراسات التكلفة الإجمالية ليغيب المرضى يكلف نظام الرعاية الصحية حوالي تتجاوز 150 بليون دولار.
ويعتقد الباحثون أن هناك فرصة هائلة لاستخدام الاقتصاد السلوكي مع بعض وسائل تكنولوجية بسيطة، لخلق آليات جديدة تساعد المنظمات الصحية في إدارة سلوك المرضى، وتحسين الإجراءات، وتقليل التكاليف. ومن الواضح أن الاستثمارات في مثل هذه الحلول الإبداعية يمكن أن تولد بسرعة عوائد بشرية ومالية ضخمة.
تمثل دراسة جونسون وغولدشتاين حول التبرع بالأعضاء أحد الأمثلة الأكثر "كلاسيكية" لتطبيق الاقتصاد السلوكي على الصحة العامة. حيث أظهرت الدراسة كيف يمكن للتدخلات البسيطة، مثل تسجيل الأفراد افتراضيا في سجل التبرع بالأعضاء، أن يزيدوا من تبرعات الأعضاء زيادة كبيرة.
يستخدم الباحثون أيضا رؤى اقتصادية سلوكية - جنبا إلى جنب مع أدوات التطبيب عن بعد - لرصد سلوك المرضى وتشجيعهم على الالتزام بنظم العلاج. في إحدى التجارب أعطي المشاركون زجاجة دواء "ذكية" تتعقب وتنقل لاسلكيا البيانات حول استخدام الدواء. كل يوم، والمرضى الذين يأخذون أدويتهم بانتظام يكونون مؤهلين للفوز بجوائز نقدية من خلال قرعة يانصيب يومية. في اليوم التالي، يتم الاتصال بهم برسالة تقول لهم ما إذا كانوا فازوا بجائزة أو كانوا ربما سيفوزون إذا كانوا قد تناولوا الدواء. هذه اليانصيب صغير ولكن متكرر يستفيد من ميل الناس إلى تفضيل المكافآت الفورية، وأيضا تلعب على رغبتهم في تجنب الندم أو الأسف (إذا كنت فقط قد أخذت دواءي، كان يمكنني أن أفوز). وقد يتلقى أفراد العائلة أو الأصدقاء رسائل تلقائية إذا كان الناس يفوتون أكثر من جرعتين من الأدوية - مما يوفر ضغطا اجتماعيا للنجاح.
لقد أثبت علماء الاقتصاد السلوكي أيضا أن الأفراد لا يقومون دائما باتخاذ القرارات بصورة منتظمة، ووفقا للأدلة المتاحة، ومن المرجح أن يخضعوا أيضا "لإرهاق القرار"، حيث يمكن أن يصبحوا مرهقين ذهنيا عندما يتخذون قرارات كثيرة ويضعون خيارات غير متكافئة أو غير متسقة، أو يتراجعون عن الوضع الراهن.
يذكر د. سكوت هالبرن، أستاذ مساعد في كلية الطب بجامعة بنسلفانيا بيرلمان، أن متوسط عدد القرارات التي يتخذها طبيب وحدة العناية المركزة 11 قرارا حاسما لكل مريض في اليوم الواحد أو 1500 قرار رعاية حرجة على مدى أسبوعين مع عدد الحالات المعتاد. لذا، من المرجح أنه عندما يتخذ الأطباء القرارات مرارا وتكرارا يصبح من الصعب التغلب على المعايير السائدة. وهذا يعني فرصة استخدام بروتوكولات الرعاية الموحدة وممارسات الرعاية الافتراضية للتخفيف من عبء القرار.
ومن السهل أن نرى أيضا كيف أن المرضى الذين يطلب منهم اتخاذ قرارات معقدة في الحالات التي قد يشعرون فيها بالتشويش، أو الخوف، قد تواجه صعوبة في اتخاذ قرارات مسببة حول رعايتهم. فهم يميلون إلى الاقتناع بما يقوله أصدقائهم أو جيرانهم بدلا من استعراض الأدلة المتاحة. وبما أن المرضى لا يمكن أن يتوقع منهم أن يفهموا تماما المعلومات الطبية، فإنهم يتأثرون بالطريقة التي يتم بها وضع الأسئلة من قبل الأطباء.
وقد أمكن تطبيق تحسين خدمات الرعاية الصحية من خلال رصد وتقديم التغذية الراجعة حول الأداء النسبي للخدمات. وساعد استخدام الرسائل التي تتضمن المعايير الاجتماعية على تقليل عدد المواعيد الفائتة بين المرضى. وقد وجدت إحدى الدراسات أنه عندما تعرض المرضى للمعايير المعبر عنها بعدد المرضى الذين تحولوا لمواعيدهم - بدل من الإشارة السابقة إلى المواعيد المفقودة - أدى ذلك إلى خفض التذمر بنسبة 32٪. رسالة أخرى استهدفت المرضى في المستشفيات شجعتهم على احترام الموظفين (مثلا عامل الممرضات لدينا بالطريقة التي تحب أن يعاملوك بها). ويتبع ذلك مبدأ المعاملة بالمثل، مما يحرض الناس على التصرف بالمثل أو السلوك الافتراضي. وفي مثال آخر، اقترح أحد الباحثين أن يكون للمرضى المسجلين أنفسهم في قائمة المانحين وضع تفضيلي. مما شجع الأفراد على التسجيل في قائمة المانحين كمسألة المعاملة بالمثل – سيعطى المسجل الأفضلية على شخص غير مسجل في حالة احتياجه  مستقبلا.
 وفي دراسة نشرت 2016 من قبل حوليات الطب الباطني، تم تكليف المشاركين في برنامج التعافي بالمشي 7000 خطوة يوميا على مدى 26 أسبوعا. وقسم المشاركون إلى أربع مجموعات: مجموعة (ضابطة) لم تتلق أي حافز مالي؛ ومجموعة اليانصيب قد تحصل على جائزة محتملة كل يوم تحقق فيه الهدف؛ ومجموعة المكاسب التي تلقت جائزة  1.4 $ عن كل يوم حققت فيه الهدف؛ ومجموعة الخسارة التي أعطت للمشاركين 42 $ في بداية كل شهر مع شرط أنه سيكون عليهم إعادة 1.40 $ عن كل يوم لم يتم فيه تحقيق الهدف.  أظهرت نتائج الدراسة أن مجموعة الكسب ومجموعة اليانصيب قد أديتا أداءً مماثلا للمجموعة الضابطة. وحقق المشاركون في هذه المجموعات الهدف اليومي بنسبة حوالي 30٪ إلى 35٪ من الوقت. وفي المقابل، حقق المشاركون في مجموعة الخسارة الهدف اليومي بنسبة 45٪ من الوقت.
يهتم الناس عموما بكيفية مقارنتهم بنظرائهم، وكذلك مقدمي الرعاية لا يختلفون في ذلك الشأن. على سبيل المثال، وجدت عيادة دين في ولاية ويسكونسن أن مقدمي الرعاية كانوا أكثر عرضة لتغيير سلوكهم عندما حددت تقارير الأداء الشهرية للأطباء داخل قسم، مقارنة بالوضع عندما أطلقوا تصنيفات دون تحديد. وقد ساعد خلق ضغط الأقران على تسهيل تحسين الجودة، وفقا لتقرير أصدره مكتب المساءلة الحكومية في ديسمبر 2012.
إن رؤى الاقتصاد السلوكي لها القدرة على تعزيز الجهود لإشراك المرضى ومقدمي الخدمات. وهناك حاجة إلى مزيد من البحوث لوضع النظريات موضع التنفيذ. يقدم الاقتصاد السلوكي وعودا قوية لكل من المرضى ومقدمي الخدمات، من خلال الأفكار الهامة والآثار السياسية غير المستمدة من النماذج الاقتصادية التقليدية للسلوك.
وفي النهاية يجب التنبيه على بعض الجوانب الأخلاقية التي ينبغي مراعاتها عند محاولة التأثير على السلوك، مثل: إلى أي مدى ينبغي أن يُدفَع الناس للقيام بأشياء جيدة بالنسبة لهم؟ يجب احترام  رغبة الأفراد وحقهم لاتخاذ القرارات الطبية، ونوع الرعاية التي يرغبون في الحصول عليها." وفي الوقت نفسه، نريد أيضا للمرضى أن يتخذوا الخيارات التي تعزز مصالحهم الخاصة، ولكن في معظم الحالات لا يمكن للمرضى تحقيق ذلك بمفردهم، حيث يتأرجحون، ويتعثرون في سبيل صنع قرار إنساني جيد. فهل نسمح للمرضى باتخاذ القرارات التي تحولهم عن أهدافهم الخاصة، أم أننا نتدخل؟
ويمكن القول إنه طالما أن النكزات أو الدفعات هي دفعات حقيقية صادقة، حيث يكون المرضى أحرار في اختيار ما يشاؤون، ثم من المرجح أن تحقق هذه الدفعات قدرا كبيرا من الصواب من خلال مساعدة مرضى مثقلين بالهموم ومنهكين بالمرض على اتخاذ القرارات التي من المرجح أن تكون متسقة مع أهدافهم .

تعليق عبر الفيس بوك