عبد الله العليان
يعيش واقعنا العربي الراهن أزمة الخطاب العربي الراهن، في قضايا راهنة عديدة نعرفها جميعاً، وهذه بلا شك تحتاج إلى مُراجعة جادة من أصحاب القرار السياسي، والفكري، والإعلامي، تجاه المشكلات والتوترات القائمة التي تعد، علامة بارزة لأزمة الخطاب السياسي الراهن للأمة.
ففي القرن الماضي، كانت خطابات الخمسينيات والستينيات الماضية، عرفت بالتوتر والفتن، وإشاعة الخلافات والأزمات، في قضايا لا تستحق كل ذلك الخطابات التصعيدية بين تلك الدول العربية آنذاك، لأنها لا تتقارب مع تلك الخلافات ولا كانت فيها مصلحة للأمة أو الدول نفسها، ولعبت القوى المعادية للأمة، دوراً مهيجاً في هذه الخلافات، وشجعتها إلى التوسع والامتداد لأسباب سياسية وكانت تلك الفترة تعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، من خلال التصنيف الذي كان طاغياً آنذاك إلى دول رجعية، ودول تقدمية.
وفعلاً أصبحت دولنا العربية في خلافات ومشاحنات وحروب داخلية، عند دخولها ضمن الصراع الدولي وتصنيفاته الفكرية والسياسية، واستمرت عدة عقود، حتى أفاقت أمتنا على نكسة 1967 الأليمة، حيث خسرت أمتنا أرض فلسطين كاملة، بالإضافة إلى احتلال إسرائيل لأراضي ثلاث دول عربية، هي مصر وسوريا والأردن، بعد ذلك أحسّت النخب السياسية العربية بفداحة الأخطاء التي كانت موجهة لزيادة الفرقة والخصام، وخلق هذا الخطاب الذي عكّر الأجواء بين بعض الدول، دوراً سلبياً في إثارة النزاعات الداخلية، وكانت حرب اليمن التي أعقبت الانقلاب الذي قاده اللواء عبد الله السلال، وبعض القيادات العسكرية اليمنية عام 1962، وقامت الحرب لعدة سنوات بين مصر المؤيدة للنظام الجمهوري الجديد، وبين السعودية المؤيدة لنظام المملكة المتوكلية اليمنية الذي كان الأمير محمد البدر، وكان صراعاً دائماً، لعب الخطاب الإعلامي، دوراً محرضاً ومساهماً في هذا الخلاف، لأن الخطاب لم يكن نقداً عاماً في إطار الخلاف المعروف، لكنه كان خطاباً يهدد ويتوعد بأن يكون القادم أسوأ على ذلك النظام أو ذلك.
وهذه الخطابات التصعيدية كان لها الأثر الكبير، في التخوف لدى كل طرف مما يقال من تهديدات لكل طرف على الآخر، ويذكر ممن عاشوا سماع إعلام ذلك الوقت من شتائم وسباب، يندى لها الجبين، ولا يقله إلا من ليس له وعي وعقل ومنطق لمؤثرات هذا الخطاب على واقع الأمة واستقرارها ووجودها، وعاشت الأمة خلال تلك الفترة في نزاعات وتوترات واقتتال، ولم تتوجه الأمة إلى النهوض ببلدانها وهو الأهم والأجدى من غيره، بل كانت تعيش في خطابات الصراع والتحريض بينهما، وحصلت الانقلابات، بعضها حدث في أسابيع، ثم يأتي انقلاب آخر ويعصف بالبلد، ويحدث اقتتال بسببه، وأموال ونفوس تهدر. وعندما قامت الوحدة المصرية/ السورية أواخر الخمسينات من القرن الماضي، عمت الفرحة الأمة العربية، لقيام هذه الوحدة العربية، وكادت أن تنضم العراق لهذه الوحدة، لكن الظروف المحيطة بالواقع العربي، وخطاب التحريض والتوتر، جعل بعض الأطراف يدعون إلى إنهاء هذه الوحدة، إلى جانب بعض الأخطاء التي أسهمت في حدوث الانفصال الذي كان ضربة موجعة للنظام العربي الجديد.
الآن.. نرى أن خطاب الفتن والسباب والتوتر، بدأ يسري ويعود مرة أخرى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ويتم للأسف تجنيد الملايين من خلال من يتم تسميتهم بـ"الذباب الإلكتروني"، ومن غيره من الوسائل الإعلامية، هذا الخطاب يسهم إسهاماً خطيراً في تعكير الأجواء، ويجعل الخلافات الصغيرة تتحول إلى خلافات خطيرة مع تعكيرها، والأمة في ظروفها الحالية، تحتاج إلى الموضوعية في كل نقاش، أو نقد، أو الحديث بسبب خلاف حدث أو يحدث بين بعض الأطراف، والخلاف أمر طبيعي وسنة كونية في مسيرة الحياة، لكن هذه الخلافات تقدر بقدرها، ويتم الحديث عنها بمقدار حدوثها وحدودها الصحيحة؟ ثم لماذا التعرض للأعراض والتجريح؟ ولماذا التصعيد لخلافات لن تكون أبدية؟ فهذا الخطاب فاق خطاب الخمسينات والستينات من حيث الكم؟ لكنه خطاب بائس وعقيم، وكنا نظن أن الخبرات التي اكتسبتها الأمة من الخطابات السابقة كما أشرنا، سوف يجعل خطابنا موضوعياً وواقعيًا عند الخلاف، لكن يبدو أنَّ هذا التوقع لم يكن في الحسبان ولم يلتفت إليه، وهذه هي المعضلة التي للأسف لن تسهم إلا في تأخير الأوطان.
والحاجة ماسة من النخب السياسية العربية، إلى توخي الحذر، لأن بعض الدوائر الغربية، تتحدث عما هو أسوأ لمستقبل الأمة، فإذا ما بقيت رهينة هذا الخطاب والسياسات التصعيدية، فإن الأمر لن يكون ليس سهلاً وميسورا في عالم لا يهمه إلا المصالح الخاصة، عندما يتم الحديث عن مخططات لا تهدف إلا إلى تمزيق هذه الأمة وتفكيكها، ولذلك فإن العقلانية الواعية من كل الحكماء والعقلاء في الأمة، تستدعي الوعي بما يدور حولها، وأن يتم الكف عن الخطاب المحّرض الذي لاهدف له، إلا إثارة الخلاف والضغينة بين الأشقاء، لذلك من المهم أن تتعظ الأمة من الخلافات والصراعات البينية، فالتجارب التاريخية، تقول إن الخلافات بين الأبناء والأشقاء، مدعاة إلى الضعف وإلى التمزق ثم التلاشي، ومن ثم تتكالب عليها الأمم الأخرى، وتكون عبرة للتاريخ، والعبرة لمن يعتبر.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.