"البهرج الخداع"

هلال الزيدي

قال لي أحدهم ذات مرة: لا يهم مضمون "التغريدة"، المهم عدد المتابعين والمعلقين عليها؛ فمهما كان هناك تناقض فج، إلا أن الكم هو الغاية.. انتهى كلامه المُقْنع له لحد عتبة أنفه.

في ذلك العالم المليء بالمتناقضات، تتنافس حسابات مؤسسات مرموقة في قدها وقديدها مع حسابات أشخاص يبتغون الشهرة؛ فتجدها تعزف قيانها بأسلوب لا يطرب إلا المتمترسين على سُدتها، ولا تعترف برأي بريء في استيعابه، أو رأي قادر أن يفرّق بين الظل والأصل، وعلى الرغم من ذلك فالمكابرة ديدنها وواقعها مسرحية تُبكي قبل أن تُضحك، فلماذا هذا التعسف يا جهابذة التغريد المتفرد في أشكاله؟ والحصيلة ما هي إلا ضحك على الذقون وخداع مكشوف تدمع منه العيون.

أصبح من السهل جدًّا حشد الكلمات وتنميق الصور واستخدام ثُلة من الإمعات لتحقيق شرعية النفاق الطاعن إلى العظم، لكن من الصعب أن يمر ذلك الحشد بألوانه البرّاقة على ممن يملك مبادئ وأيديولوجيات ثابتة لا تحيد عن الحق قيد أُنملة، ومهما تمادت أصابعكم في الضغط على زناد الحرف ومهما طاوعكم شكله ورسمه، إلا أنَّ تلك الرصاصة سترتد في صدوركم المحشوة ببريق الأنا، فأي حق يراد به باطل لا يستمر، فقط مسألة وقت واختبار سينتهي يوماً ما، وسيأتي المصحح ليضع النقاط على الحروف التي قلبتم معانيها.

إن وهم النجاح الذي تغنيتم به، فوسمتموه للعامة بالإنجاز، لا يمكن أن ينطلي على عقل حصيف؛ وإن كانت درجة القبول عالية، فذلك لا يعتبر معياراً، وإنما صمت من قبل العارفين بمخابر الفكر؛ لأنكم لا تفتحون صفحة للحوار الهادف، فحواركم كحوار الطرشان لا أكثر؛ حتى وإن اعتبرتم من يختلف معكم أنهم أعداء النجاح، فجل ذلك مكشوف، ولا يمكن أن تتكوَّن القناعة إذا انتهجتم شروط الإذعان؛ لأنه ينافي الاتفاق باختلاف تجلياته.

ذات يوم شتوي، شرحت المعلمة درسًا في صفة الكذب؛ كونها صفة ذميمة، وذلك من أجل أن تزرع الأخلاق الحميدة لدى طلابها، بعدها ذهب الطفل البريء للبيت لمشاهدة التلفاز، ويأخذ منه ما وافق طفولته، فشاهد الثلج والمدن التي يغمرها الجمال الأبيض ونقاوة وشقاوة الأطفال وهم يشكّلون كرات ثلجية؛ في تلك اللحظات تلقّى والده رسالة لمؤسسة تعلن عن افتتاح قرية الثلج الشتوية؛ واستجابة لطلب ابنه ذهبوا إلى القرية المزعومة وأحلام الطفل تسابقه في صناعة رجل الثلج، ويتلمس بيديه تلك الكومات، ويستشعر برودة تحت الصفر .

المكان يضج بالأطفال والزحام شديد، وما إن لامست أقدامهم ذلك الفلين صرخوا "هذا ما ثلج" فخابت أحلامهم.. وخرجوا يثيرون الأسئلة: لماذا يقولون قرية ثلجية ولا يوجد بها ثلج؟ حاول الأب تبرير ذلك المشهد والخديعة الرهيبة حتى لا تتقاطع مشاهد الحياة لدى ذلك الطفل، إلا أن طفله عاجله بسؤال مباغت: "ألا يطابق هذا صفة الكذب التي حذرت منها معلمتي؟ لأنها تقول بأن الكذب هو ما ينافي الواقع". هنا اختلطت الأفكار على والده فطفق يُنظّر ويبرهن تجليات الكون وطبيعة البشر وتفسيراتهم للحياة حتى قال لابنه:  يا بني، ستتعلم أشياء كثيرة كُتبت بماء الذهب واختيرت لتكون أساسًا تنشأ عليه أنت وأقرانك، وتلك الأسس هي البذرة التي زرعت في كل الأجيال، وما خالفها على أرض الواقع فهو مبني على الفرد ذاته، فإن أراد أن يكون ضمن تلك المنظومة التي تقول شيء وتفعل شيء آخر فهي متاحة، وإن أراد أن يثبت على مبادئه فله ذلك شريطة ألا يتذمر من طغيان الطرف الآخر، فكل نفس ما كسبت رهينة. يا بني، نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وهذا الحديث الشريف يحمل الكثيرَ من المعاني والدلالات التي تقارب هذه الواقعة، وما عليك إلا أن تجتهد كي لا تسقط في وحل من اعتبر أن الكذب مزاح أو نكتة، أو ربما تُقية.

يمارس الكثيرون لعبة الاستغفال، وبديهيًّا فلا يمكن أن يكون الفاعل هنا ذكيًّا، والمفعول به -والذي تنطلي عليه تلك اللعبة- "غبيا"، وإنما ظروف الزمان والمكان تجبر المفعول به أن يكون فريسة ذلك المتمادي، وعليه فإن النتيجة القريبة أن يظفر الفاعل بمخططاته، ولكن النتيجة البعيدة ستكون سلبية على الفاعل، حتى وإن علا شأنه.. لأن الأيام دول.

----------------------

همسة

يقول الشاعر العراقي حسن المرواني في قصيدة "أنا وليلى": "واغربتاه..مضاعٌ هاجرتْ سفني عني.. وما أبحرت منها شراعاتي، نُفيتُ واستوطن الأغراب في بلدي.. ومزقوا كل أشياء الحبيباتِ، خانتكِ عيناكِ في زيفٍ وفي كذبٍ؟ أم غرك البهرُج الخداع مولاتي؟ توغلي يا رماحَ الحقدِ في جسدي.. ومزقي ما تبقّى من حشاشاتي.

abuzaidi2007@hotmail.com