الوطن بين الرومانسية والخطاب الواقعيّ

عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصريّ


أدعو القاريء إلى الدخول معي في حضرة قصيدة الشاعر الدكتور: محمد محمود السيد والتنقل عبر سطورها لاستجلاء ملامح التجربة وخاصةً رؤيته للوطن، فعبر كل سطر داخل النصّ التفعيليّ نشهد انتقالات سلسة بين المعاني المتولّدة والمتناسلة ومن سطر إلى سطر تبزغ جزيئات "صورة الوطن" وحينما تكتمل الصورة تبقى راسخة في ذهن القاريء ليتحول الوطن من فكرة رومانسية مجردة ويوتوبيّة مأمولة، إلى خطاب واقعيّ خادع، وأقول خادع، لأنه لم ينتقل من المستوى الخيالي إلى المستوى التخييلي المفترض... لنقرأ معًا.. فإلى النصّ:
الولد الماثل فى الصورة،
كان شقيا ونقيا
كان حييا ونديا
وينام على حلم يسّاقط غيما
يحلم بالآتي فى وطنٍ
يغزل بالليل خيوطا من نورٍ يتلألأ
كى يربط قرن الصبح ليتبعه
ويشاهد فى الرؤيا
آفاق العشق
فيرسمها أملا يتهادى
فوق غلالات الوجد
ويراكِ بمرآك
ملاذا، أحلاما، ورياض
ويغازل أمجادا فى وجهٍ يتجلى
تسرد عيناه بشارات نبيٍ
من فرط حنينٍ لصبي
يرتد بصيرا حين يلامس
فى الوهم
قميصا
يمتزج بريقى
راحٌ من ريح صباك
فيدب بجسدى طوفانٌ من عزٍ
وأكاد ألامس جنبات الصبح
لكن
كبر الطفل قليلا
فرأى الأحلام البلهاء
تتساقط فى وهج الذل أنينا
فيمد إلى الماضي
كفا
تترنح من ثقل الأغلال
ويشاهد فى زنزانة قهرٍ
سياط الذكرى وأنين الملح
ياوطنى
لاأرجو حلما يسكنني
لاأطمع في جَنَّاتٍ تجرى
خذ مني ما تبغي
كى تصعد
حتى فوق جماجمنا
ولتعلم أنى راضٍ عن ذلى بهواك
وحسبي
فأنا غيثٌ يا وطنى
محتبسٌ
أن أطلقت سراحي
سترى فيضا
فأنا لجبينك بعض ندى
وأنا فى نحرك أسمع دمعي
نارك ياوطنى
قد تحرق بعض ملامحنا
لكنى
أجد على النار هدى
****
أعجبتني جدا تلقائية التجربة في قصيدة الشاعر الدكتور: محمد محمود السيد ولغتها المنسابة؛ لتعبر عن شعور منسجم ومتروٍ يتخذ من ندائه للوطن مناسبة لإعلان استعدادات حقيقية لفتح مستقبل الإنسان والوطن على مدى وسيع، لو توفرت الحرية المفتقدة في الواقع.
اعتمدت التجربة على آليات كثيرة لتتحقق فنيا.. والملاحظ في مثل هذه التجارب، تعاضد ما هو رومانسي وما هو واقعي في كشف رؤية الشاعر؛ لتأتي التجربة بين بين، وتقدم معالجاتها للواقع من خلال الصراع بين ثنائيات كثيرة ، بدأت تعتمل منذ السبعينيات في التجارب الشعرية، ومن هذه الثنائيات: الماضي/ الحاضر، الممكن/ المأمول، الواقع/ المتخيل، الأنا / الآخر، وكلها تجارب جيدة تقيـم أساسها الشعري على فكرة الصراع، وهي تجارب غير بريئة من نزق الرومانسية التي تفرض نمطا شعوريا هاربا من ظلامية اللحظة إلى الماضى، والحلم، وممارسة الحزن.. وتفلتا من ربقة الواقع البليد الذي ينكر على الذات الشاعرة حلمها.
يمكننا أن نلحظ تنقلات بين الداخل والخارج، والبوح، واستجلاء عوالم يوتوبية مأمولة مقابل صرامة واقع صادم، ونتائج لا تقنع الذات الشاعرة صاحبة الرؤية المتسعة الحالمة.
رغم ثراء هذا النص فنيا إلا أنه أضطر لمخاطبة الوطن مباشرة، ليتحول الوطن من فكرة رومانسية مجردة ويوتوبيه مأمولة، إلى خطاب واقعيّ خادع، وأقول خادع، لأنه لم ينتقل من المستوى الخيالي إلى المستوى التخييلي المفترض. فالشاعر يعرف أن وطنه تم اختزاله في شخص الحاكم.. وفي إطار الخداع تستمر التجربة في علاقة حوارية مع وطن مأمول لتتبادل العطاء والحميمية معه.
مثل هذه التجارب تفترض وطنا، لتقيم الحوار معه، أو النداء إليه ومخاطبته، وهي تمارس هجسها بالوطن وبالمستقبل، وتتناسي أن الوطن حقيقة لايزال فكرة مجردة. وعليه أن يفضح الواقع القبيح الذي تمادى في إخفاء ملامح الوطن الحقيقية. كما يحلم به الشاعر.

تعليق عبر الفيس بوك