مؤتمر عُمان للموانئ

 

حاتم الطائي

(1)

لم يكُن التراثُ المادي يومًا هو المعني وحده بالصَّوْن والحفاظِ عليه؛ فالمجدُ الحضاريُّ للأمم ينبنِي -في شقٍّ كبيرٍ منه- على شواهدَ تاريخيةٍ شفهيةٍ، تأخُذ مَسألةُ الاحتفاءِ بها موضَعَها على صَفحات التاريخ، بكل ما تتضمنه من منجز حضاري، يضعُ على عاتِق كل جيل مسؤولية نقله وإيصاله للأجيال القادمة بأمانة واعتزاز.. وتاريخُنا البحري باعتباره رمزًا لهُويتنا وعنوانًا لحضارتنا، يعدُّ أحد هذه المفاخر المشرقة، التي تستحِقَّ أنْ تظل تُروى؛ إذ يجسِّد القيمة المضافة للسلطنة، ليس على مُستوى الموقع الجيو إستراتيجي ووفرة الموارد فحسب، وإنما كانعكاسٍ لإرادة الإنسان العُماني في صُنع الحضارة، وترسيخ دعائم نهوضه على قاعدةٍ متينةٍ من الرغبة الجادة، والعزيمة الصلبة، والقدرة على قَهْر الصِّعاب؛ فمَنَح التاريخ لأسلافِنا صكَّ أسياد البحار بامتياز، ولأسفارِهم حقَّ الاحتذاء واقتفاء الأثر في استعادة بريق المجد العُماني.

(2)

واليوم.. ونحن نتحدثُ عن شبكةٍ واعدة من الموانِئ العُمانية، مُوزَّعة على طُول سواحل بلادنا، أحدثتْ نقلةً نوعيةً وسريعةً في مشهد الصناعة البحرية ومسارات الملاحة العالمية -بفضل ما أولته لها حكومتنا الرشيدة من اهتمامٍ، ضمن إستراتيجيات ورؤى المستقبل وخطط التنويع الاقتصادي- أصبح واضحًا أن رافدًا تنمويًّا جديدًا انضمَّ لأسطولِ قُوَى الدَّفع الاقتصادي، خصوصا مع مؤشرات أداء إيجابية، وأرقام متعلقة بحركة تلك الموانئ، من حيث مناولة البضائع وأعداد الحاويات والسفن، فضلا عن الخدمات اللوجستية التي استثمرت فيها الحكومة ملايين الريالات، لتعزيز مكانة عُمان على خارطة المناطق اللوجستية العالمية؛ سواءً من خلال التوسُّع وتطوير الموانئ القائمة، أو تشييد موانئ جديدة ذات قدرات أعلى لاستيعاب الحركة المتوقعة خلال المراحل المقبلة، خصوصاً مع اكتمال مشاريع الطرق، والمناطق الحرة والمدن اللوجستية، وعمَّا قريب مطار مسقط الدولي الجديد.

(3)

إنَّ الصَّورة المتشكَّلة الآن، كنتِاج للمشهديْن أعلاه؛ تُمثل في أبعادِها عُنوانًا رئيسيًّا لمرحلة جديدةٍ، نلجُ فيها بوابة مستقبلنا التنموي بثبات أكبر؛ فالإفادات المتحقَّقة من هذا النشاط البحري بتطوره المتلاحِق؛ لا تقتصر فحسب على إسهامه في تحسين ميزان المدفوعات وتحقيق إيرادات أعلى من العملات الأجنبية، أو حتى خفض تكاليف البضائع المستوردة والسلع والمواد الخام، بل تتعدَّى ذلك إلى ما هو أعمق؛ إذ هي تأكيدٌ على الاستقلال الاقتصادي ابتداءً، ورأسُ مالٍ اجتماعي ذو عوائد مُجزية، يمثل أداة ازدهار للولايات والمدن الواقعة قُرب هذه الموانئ، وأحواض بناء السفن، والشركات الملاحية، والمصانع...وغيرها، كما يُتيح فرصَ توظيف مباشرة وغير مباشرة للأيدي العاملة الوطنية، فضلاً عن العديد من الإسهامات الأخرى على المستويْن المتوسط وبعيد المدى.

وعلى ما يُتوقَّع من مُستقبل مُشرقٍ للدور التنموي الذي تقوم به مُوانِئ السلطنة، وما ينتظرها من مُستويات نموٍّ عالية، في ظلِّ رغبةٍ أكيدةٍ لإدخال برامج وأنظمة جديدة لرفد القطاع، وتعزيز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وإيجاد بدائل استثمارية متنوعة تتيح فرصًا أكبر لإنشاء خدمات لوجستية وشركات ملاحة ونقل وشحن، تمكِّن من تلبية احتياجات القطاع مستقبلًا، تشكَّلت لدينا قناعةٌ بضرورة المبادرة بإيجاد وتهيئة بيئة نقاش مُواتية أمام الخبراء والمختصين؛ لبلورة رُؤى جديدة تدعم هذا الحِرَاك الفاعل والواسع؛ فكان ثمرة ذلك "مُؤتمر عُمان للموانئ"، الذي تنتظم أعمال دورته الأولى، غدًا، تحت عُنوان "الموانئ.. بوابة التجارة العالمية"؛ إيمانًا منَّا بأنَّ تكاملية الأنشطة الاقتصادية هي إحدى أهم إستراتيجيات المستقبل، الضامنة لإحداث تحوُّل جاد -فكريًّا وعمليًّا- يُعظِّم خُطانا على درب المنافسة عالميًّا.

ويستهدفُ المؤتمر -الذي ينعقد هذا العام بشراكة إستراتيجية مع وزارة النقل والاتصالات، والمجموعة العُمانية العالمية للوجستيات "اسياد"- تطويرَ آليات إدارة الموانئ العُمانية، وتكاملية أنشطتها، وآفاق اندماجها إقليميًّا وعالميًّا؛ لتحقيق قدرات تنافسية أكبر، وكفاءات لوجيستية أكثر تقدمًا ومواكبةً، واستعراض آليات تطوير الموانئ والنظم الحديثة لإدارة عملياتها البحرية، ضمن مجموعة أهداف بعيدة المدى، نستهدفُ تحقُّقها على طُول فترات انعقاد المؤتمر مستقبلًا؛ سواءً ما تعلق منها بمدِّ جُسور التعاون المشترك وتبادل الخبرات الدولية في كل ما يخص القطاع، أو أن تتعزز فرص تحقيق احتياجات حركة التجارة من منظور لوجيستي متكامل، مع إتاحة الفرصة لإبراز آليات الابتكار والتميز في عمليات الموانئ، وإستراتيجيات التطوير، كضمانة لتوحيد الجهود من أجل مزيد من الأفكار المحفِّزة لاستخدام التكنولوجيا فى النقل البحرى واللوجستي، والإفادة من الحوسبة السحابية فى إدارة سلاسل الإمداد، وتعظيم الاستفادة من نُظم الجودة والأمان فى صناعة الموانئ.

... إنَّ "مؤتمر عُمان للموانئ" الذي تجتمعُ على مائدة نقاشِه هذا العام كوكبة من أبرز الخبراء والمتخصِّصين من دول العالم المختلفة، ومن شركات وبيوت خبرة عالمية، ومنظمات بحرية -آملين التوصل لجُملة توصيات تُسهم في رفد المنظومة بأكملها- ليُمثل بوابة زمنية تختزلُ المسافات بين ماضي عُمان المجيد، وحاضرها المزهر، ومستقبلها الذي نتطلع لصياغة مُعطيات آفاقه، واستكشاف إيجابيات فرصه المتاحة للبناء عليها.