نداء القُدس

حاتم الطائي

العرب حكموا القدس أغلب فترات الزمن.. ولا علاقة للصهيونية بهذه المدينة المُقدّسة

الإرهاب الصهيوني يُنفذ حرب إبادة شاملة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم

"طوفان الأقصى" بداية لتحرر الشعب الفلسطيني من أبغض احتلال في التاريخ

 

للقُدس مكانة سامية في قلوب العرب والمُسلمين، مكانة تنبع من الأهمية التاريخية والدينية والسياسية لواحدة من أقدم مدن العالم، والتي يعود تاريخ بنائها لأكثر من 5 آلاف سنة، وظلت هذه المكانة المرموقة محفوظة في قلوب الناس، وستظل إلى يوم الدين، خاصةً في قلوبنا نحن المُسلمين والعرب، لما تحضتنه من مقدسات إسلامية، فهي مسرى رسولنا الكريم مُحمَّد، وهي بيت المقدس، الذي يحتضن المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين.

اليوم، القدس تئن حالها كحال غزة والضفة الغربية وكامل الأراضي الفلسطينية المُحتلة، تتعرض القدس منذ عقود لمحاولات طمس الهوية وتشويه التاريخ، ومساعٍ لا تتوقف من أجل تهويدها، وقد تواطأ في ذلك الكثيرون، بدءًا من كيان الاحتلال الغاصب المُجرم، الذي يدّعي زورًا وبهتانًا أحقيته في المدينة المُقدسة، بناءً على زعم كاذب حول ما يسمى بـ"هيكل سليمان"، على الرغم من أنَّ الدراسات والشواهد التاريخية نفت تمامًا وجود مثل هذا الهيكل، أو الزعم حتى بأنه كان موجودًا في هذه المدينة.

القدسُ مدينةٌ تاريخيةٌ حكمها العرب أغلب فترات الزمن، لكنها كانت دائمًا مطمعًا للقوى الكبرى على مر التاريخ، فرغم عروبتها التي لا تقبل الشك ونسبتها إلى العرب الكنعانيين، الذين أسموها "أورساليم" أي مدينة السلام أو مدينة الإله ساليم (حسب بعض المراجع التاريخية)، وظلت تحت الحكم العربي لفترات طويلة من التاريخ، إلّا أنه في الوقت نفسه حَكَمَ القدس وسيطر عليها المصريون القدماء، والبابليون، والفُرس، واليونانيون، والرومان، والمسلمون، والصليبيون، والمماليك، والعثمانيون، وأخيرًا الاحتلال البريطاني الذي سلّمها بكل خسة وتواطؤ إلى الصهاينة بعد "وعد بلفور". ومن المفاجآت المُدهشة التي يكشفها التاريخ أن اليهود (كأصحاب ديانة) لم يحكموا القدس إلّا لمدة تقارب 73 سنة إبان حُكم النبي داود وابنه سليمان- عليهما السلام. وإذا تفكّرنا في هذه الفترة سنجد أنها بلا شك لم تكن فترة احتلال كمصطلح، لكنها كانت فترة حكم لإثنين من أنبياء بني إسرائيل، وتاريخنا الإسلامي وعقيدتنا الإسلامية يكشفان لنا كم كانت هذه الفترة تتسم بالعدالة والمساواة والحكم الرشيد، والأهم من ذلك أننا نؤمن بأنبياء ورسل الله على مر التاريخ؛ باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من الآية الكريمة "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ"، والآية "كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ"، وهذا يعني تسامح المسلمين مع الديانات الأخرى، لأنها من نبعٍ واحد، وإن اختلفت شعائرها أو حُرِّفَت عقائدها لاحقًا. غير أنَّ رفضنا المُطلق ينصب نحو الحركة الصهيونية مُمثلة في الكيان الإسرائيلي المُحتل والمتواطئين معه من أمريكا والغرب. ولا بُد من التأكيد في هذا السياق، أن النبي سليمان وابنه داود، لا علاقة لهما بالحركة الصهيونية الاستعمارية العنصرية البغيضة، لأنها ليست سوى مشروع استعماري يوجه طعناته إلى قلب العروبة، القدس.

وبينما تتعرض غزة لحرب إبادة شاملة تستهدف الإنسان والنبات والحيوان والحجر، وتعيش الضفة الغربية حالة غليان ضد الاحتلال الإسرائيلي الفاشي، فإنَّ مدينة القدس العربية الإسلامية تقبع تحت نير احتلال جبان، ويتعرض أهلها من المقدسيين لحملات من الكراهية والعنصرية البغيضة، والعيش غرباء على أرض وطنهم، يواجهون بصدور عارية إرهابَ المستوطنين الإسرائيليين المُسلّحين، مُستضعفين أمام آلة الحرب الإسرائيلية القاتلة، يواجهون صلف المُحتل وعدوانه المُتكرر على المقدسات؛ سواءً على أيدي جنوده المُجرمين، أو بما يقوم به المستوطنون الفاشيون من تدنيس للمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية.

القدس مدينة السلام على مر العصور، تشهد منذ عقود عدوانًا من نوعٍ آخر، عدوان لا تُسقط فيه الطائرات الحربية مئات الآلاف من أطنان المُتفجرات، ولا آلاف الدانات المدفعية، كما هو الحال في غزة، لكن تتعرض القدس لأبشع عمليات طمس الهوية على مر التاريخ، عبر الاستيطان السرطاني؛ حيث يسرق الإسرائيليون الأرض علنًا من الفلسطينيين تحت قوة السلاح وهدم البيوت بالجرافات والآليات، وكذلك من خلال التواطؤ الدولي، من خلال إعلان عدد من الدول الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، في مخالفة صريحة للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، فضلًا عن بناء سفارات وقنصليات أجنبية في القدس باعتبارها عاصمة دولة الاحتلال.

من المؤسف أن يجري كل ذلك تحت عين وبصر المجتمع الدولي المُتخاذل، هذا المجتمع الدولي بمنظماته المتهالكة، الذي انتفض عندما شنت روسيا عملية عسكرية في أوكرانيا لوأد مشروع غربي كان يستهدف تحويل أوكرانيا إلى قاعدة مُتقدمة لحلف شمال الأطلسي "ناتو".. هذا المجتمع الدولي المتواطئ الذي صمت على احتلال أفغانستان والعراق وتشريد وقتل عشرات الملايين، ومحاولات هدم سوريا وليبيا والسودان واليمن وغيرها.. مجتمع دولي لم يحرك ساكنًا عندما نفذت التنظيمات الإرهابية عمليات قتل وتدمير وهدم للتاريخ في سوريا والعراق، حتى عندما أمعنت هذه التنظيمات إرهابها ومارست أبشع صور الوحشية والقتل.. إنِّه المجتمع الدولي المُنافق والمتواطئ والمُتخاذل، المجتمع الذي يخشى اللوبي الصهيوني الذي يتحكم في العالم من حولنا، ويقف بالمرصاد لكل من يحاول أن يعترض أو يرفع صوته في وجه العدوان الإسرائيلي المُجرم، وكأن العالم كله صار خاضعًا تحت أقدام هذا اللوبي الصهيوني المتوغِل في مفاصل المنظومة الدولية!

لكن هيهات هيهات، مهما تآمر العالم على فلسطين، ومهما تخاذلت الدول القريبة والبعيدة، ومهما تواطأت الولايات المتحدة وبريطانيا، أو قدمت السلاح والعتاد والمال دون سقف وبلا حدود، فإن الشعب الفلسطيني البطل قد ضرب أروع الأمثلة وأشرفها في تاريخ البشرية قاطبة، بفضل صموده غير المسبوق، وبسالته اللا محدودة. صمود تعجّب له العالم أجمع، وأثار النخوة في نفوس الأحرار حول العالم، وحرض الجماهير الغاضبة على الخروج في تظاهرات مليونية في العديد من عواصم ومدن العالم، حتى في قلب الولايات المتحدة المُلطّخة أيديها بدماء الفلسطينيين بسبب ما تقدمه من دعم عسكري وسياسي ومالي للكيان الإسرائيلي المُجرم. شاهدنا كيف تفاعلت الشعوب الحرة مع أغنية "تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية" التي تغنى بها العالم باللغة السويدية، حتى وإن لم يتحدثوا هذه اللغة، لكنها رسخت في القلوب قبل العقول، ورددها الملايين حول العالم، لإيمانهم بعدالة القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في أن يحيا بأمان وفي سلام على أرضه التاريخية.

إيماننا عميق لا يتزعزع بأنَّ الشعب الفلسطيني سينال حريته وسيحقق الخلاص الأبدي من أبغض احتلال على وجه الأرض، وما "طوفان الأقصى" سوى بداية النهاية، وستكتب المقاومة الفلسطينية وحدها شهادة ميلاد الدولة الفلسطينية الحُرة المُستقلة، مُرتكزة على دعم ومؤازرة أبناء الشعب الفلسطيني الذي برهن بصموده التاريخي أنَّه أقوى شعوب العالم، تحمُّلًا وصبرًا، والأكثر قدرة على التعايش مع مختلف المحن والكوارث، حتى إنه يقف صلبًا "منتصب القامة.. مرفوع الهامة"، لا يخشى الموت؛ بل يهابه ويرتعد منه كل صهيوني مُجرم.

سيقودنا "طوفان الأقصى"- بإذن الله- إلى النصر المبين الذي طال انتظاره، فدماء ما يزيد عن 31 ألفًا من الشهداء، وأكثر من 70 ألفًا من الجرحى والمصابين، والآلاف من المفقودين تحت ركام القصف الهمجي، ستكتب الخلاص لشعب فلسطين الحُر الأبيّ، ستولد الدولة الفلسطينية القوية الشُجاعة من رحم محاولات الإبادة الجماعية، وستذهب إسرائيل إلى جحيم التاريخ، تلعنها الأجيال وتحتقرها الشعوب، على ما ارتكبته من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في سابقة لم يشهدها التاريخ.

ويبقى القول.. إنَّ الصمود الفلسطيني، في القدس والضفة وغزة، سيظل النبراس المضيء بنور الحرية والكرامة، يهتدي به الساعون نحو الاستقلال والتحرُّر والانعتاق من قيود الإمبريالية الصهيونية.. ستكون فلسطين الباسلة، وقودًا لمعارك العِزَّة، والمطرقة التي تكسر أصفاد العبودية الحديثة وكل ما على شاكلتها..

تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية.. تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية.