عبيدلي العبيدلي
حتى الآن، ورغم زحف موعد انتخابات الغرفة بمسؤولياته المعقدة والمرهقة، يصعب القول بتبلور كتلة انتخابية واضحة المعالم، محددة الأهداف قادرة على مخاطبة المجتمع البحريني، وفي القلب منه مجتمع رجال الأعمال، باللغة التي يفهمها، والمنطق الذي يصبو إليه.
لكن قبل الدخول في مسألة الانتخابات وكتلها، هناك أمر آخر في غاية الأهمية، وهو الوقوف عند صورة التاجر، أو رجل الأعمال، البحريني التي رسمها له المواطن البحريني، خلال الربع القرن المنصرم. لم يعد هذا التاجر، كما كان في الثلاثينيات من القرن الماضي أو ما سبق ذلك التاريخ، المرجعية التي يعود لها المواطن البحريني لحل مشكلاته الشخصية منها والوطنية، سواء في النطاق المجتمعي، أو حتى في تنظيم العلاقة مع الدولة ومؤسساتها. وخبت جذوة الصورة البراقة المتألقة، كي تأخذ مكانها الحالية الباهتة الناصلة.
ما يحز في النفس هنا هو تلقي هذا التاجر كيلا لا يتوقف من الاتهامات، كما تحاول أن ترسم صورته تلك الاتهامات، "خانة المتخاذل المتنصل" من دوره الذي يفترض أن يقوم به، ليس على مستوى ممارسة الأنشطة في السوق، وإنما في محيط المسؤولية الاجتماعية، بما فيها الدائرة السياسية أيضا.
هذا التصنيف لا يخلو من بعض المنطق، لكن تنقصه الموضوعية أولا، وعجزه عن فهم الأسباب الحقيقية الموضوعية التي أرغمت التاجر، والحديث هنا عن السياق العام، وليس الاستثناءات التي تثبت القاعدة، على التراجع عن ذلك الدور المرموق الذي كان يمارسه، وعلى أكثر من صعيد، من بينها الدور السياسي.
العنصر الرئيس الذي يقف وراء هذا التهميش الملحوظ للتاجر البحريني هو ذلك الانقلاب الذي حصل في صلب الاقتصاد البحريني، وتحديدا في منتصف الثلاثينيات، من اقتصاد منتج يعتمد على الزراعة في أشكالها البدائية، والغوص وصيد البحر، والتجارة البسيطة أيضا، إلى اقتصاد ريعي متخلف يعتمد أساسا على النفط ومردوداته المالية، التي مهما بلغت من الصغر في تلك المرحلة، لكنها كانت ضخمة نسبيا، مقارنة مع تلك التي تساهم في الاقتصاد الوطني من موارده الثلاثة: البحر، والتجارة، والزراعة. وكما قضت صناعة النفط على حرف من جذورها، وفي مقدمتها صيد اللؤلؤ، والزراعة المبستنة، قلصت، إن لم يكن همشت تلك الصناعة الحصة التي كان يضخها التاجر في الاقتصاد البحريني، ومن ثم انعكس ذلك على دوره السياسي والمجتمعي على حد سواء.
ليس المقصود من ذلك الدفاع عن التراجع الذي أشرنا إليه، أو تبريره، بقدر ما هي محاولة لفهم الأسباب، وتشخيصها بشكل علمي دقيق. من ثم لم يكن التاجر، شأنه شأن الفئات المجتمعية الأخرى بعيدا عن تأثيرات اقحام النفط نفسه وبقوة في صلب الاقتصاد البحريني، وبالتالي تأثير ذلك على البنية المجتمعية، والدور الذي كانت تمارسه كل فئة من فئاته في عمليات التحول المجتمعي.
ازداد الأمر سوءا في السبعينيات من القرن الماضي، مع أول قفزة غير مسبوقة في أسعار النفط، وارتفاع الطلب عليه، رغم ذلك الارتفاع، وما رافق ذلك من تراكم ثروات هائلة في يد الدولة. انقلبت المعادلة حينها، وتحولت الدولة من معتمد في تمويل موازناتها على ما تجنيه من مكوس جمركية يدفعها التاجر، إلى منفق من تلك العائدات النفطية لإنعاش السوق، وتعجيل دورة رأس ماله العاملة فيه.
محصلة ذلك، تحول التاجر من مرسل للأموال المنتجة، إلى متلق "للهبات" التي تنعم بها الدولة عليه. رويدا رويدا تراجع دور التاجر لصالح دور الدولة. التي باتت مستقلة، وغير محتاجة لذلك التاجر.
ومع تهميش مكانة التاجر البحريني الاقتصادية، تراجعت معها مكانته المجتمعية، سوية مع دوره السياسي. رغم ذلك لم يمنع هذا الوضع استمرار التاجر، وإن كان على نطاق ضيق، من محاولة رفض ذلك الواقع، والتمرد عليه. لكن النتائج لم تكن قادرة على اشباع دائرة الطموح المبني على تلك التمردات، التي شاب البعض منها بعض التراجع غير المبرر استجابة لضغوط السلطة والقبول بشروطها.
مرة أخرى ليس القصد هنا الدفاع عن رجل الأعمال البحريني، ولا تشجيعه على القبول بهذا الواقع، والوقوع أسيرًا في أغلاله. وهذا ينقلنا إلى خانة أخرى، وهي دعوة ذلك التاجر إلى تشخيص مساحة الهامش المتاح له الحركة داخله، والعمل بشكل تطويري تدريجي، على توسيعه قدر المستطاع، مع الاستعداد لتقديم بعض التضحيات عندما يستدعي الأمر ذلك. بعيدا عن البهلوانيات غير المبررة.
نقطة الانطلاق الأكثر ملاءمة هي غرفة تجارة وصناعة البحرين، وهذا ما يجعل الانتخابات المقبلة نقطة انطلاق محورية، وذلك للأسباب التالية:
· كونها المؤسسة المجتمعية البحرينية الأكثر عراقة، عندما يتعلق الأمر بالاستمرارية، إذ يعود تاريخ تأسيسها إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، وإلى طبيعة تشكلها، فهي تحتضن مختلف فئات المجتمع البحريني التي تنتمي إلى هذا القطاع، ومن ثم فهي الحاضنة الأفضل لأية محاولة لإعادة المكانة التي يبحث عنها ذلك التاجر. ليس المقصود بذلك حرف الغرفة عن ممارسة دورها المهني، بقدر ما هو تعزيز ذلك الدور، والارتقاء بأدائه.
في وسعها، عندما تسعى لاستعادة مكانتها، أن تستقطب الفئة الطليعية من القطاع التجاري، سواء كانت مقاييس الطليعية هنا، الفئة العمرية، أم الرغبة في التطوير الهادئ السلس البعيد عن كل شكل من أشكال العنف، الذي من شأنه حرف الغرفة عن طريقها السليم، وجرها إلى معارك ليست مطالبة بخوضها، وتقديم تضحيات جسيمة ليست في حاجة إلى تكبدها.
باستثناء الصناعة النفطية، يمسك أعضاء الغرفة بمفاصل الاقتصاد البحريني، وفي ظل التراجع الذي تعاني منه أسعار النفط، ومع اندفاع الدولة نحو فرض المزيد من الضرائب، من أجل سد العجز في الدين العام، ومحاولاتها الحثيثة للخروج من دائرة تراكم هذا الدين، وارتفاع قيمته، وتقلص قدراتها لتحمل أعبائه، يفتح كل ذلك الأبواب على مصراعيها أمام النخبة التجارية البحرينية من أجل العودة لمزاولة دورها السابق، لكن على نحو معاصر مثمر، بتناسب ومجمل التطورات التي عرفتها البحرين خلال النصف قرن الماضي.